هذا الوطن!.
يبرز جلياً جمالية المهارة في بناء الصور الحسية، فالشاعر الكبير شيركو بيكه س حريصٌ على تحقيق إستمرارية قصيدته، التي صنعت تراكماً شعرياً، يقتدى بها.
إنّ حساسية قصيدة بيكس تمثل روح المعنى في عناصر التشكيل، بهدف الوصول إلى عمق الفكرة المتعدد الطبقات. وعلى هذا الأساس يمتلك قدرة مدهشة على تجميل عوالم القصيدة، رغم مفردات الموت، الحزن، الألم، الأنفال، حلبجة.. إلخ. فأناقة هذه القصيدة، وتماسكها الدلالي، تؤسس شبكة من الإشارات، تحدد جوهر العنصر الدرامي، الذي يقوم على المفارقات اللفظية، من خلال هاجس الشقاء الكردي، المشغول بقلق الوطن، وبقلق الحياة، وبقلق الحرية.
فمع بيكس، أخذ الشعر الكردي إتجاهاً آخر، وهو إتجاه الذوق الجمالي المقترن بالتأملية والدرامية. وهي محاولة شعورية لتحريك الجماد وأنسنة الطبيعة، وفق إحتمالات النمط اللغوي المستثمر في تكييف الطبيعة الكردية:
جعل الخريف من لياليه الطويلة
سجلاً للحكايات
ثمّ.. حين كان يجلس متقرفصاً في الضباب ليلاً
يفتح السجّل
ويختار لكل ليلة حكاية من حكايات الرحيل و الغدر
و يقرأها لأطفال "أنفال" ذلك السهل!
تفاصيل المعنى – في هذه القصيدة – تُعيد الكلمات إلى مفاهيمها الشعرية، لإزالة الإلتباس داخل السياقات اللغوية. فمهارة الشاعر تكمن في إستدراج العلاقة الطبيعية بين الشعر، وبين التجربة الإنسانية، عبر أبعاد الصور الشعرية، التي تتجسَد – بكل وضوح – في أحاسيس المؤنفلين.
وبما أن الإبداع بطبيعته نشاطٌ إنساني، يظهر الحدود الكاذبة والآمنة بين الحقيقة والزيف، فإن الشاعر يكشف عن هذه الحقيقة ، بطريقته الحسية، كي نرى أشواقنا الداخلية، وهمومنا الداخلية أكثر. فبيكس بمقاربته الدائمة لما هو حميم ودافئ ومتصل بأسئلة الأنفال وحلبجة وكردستان بشكل عام، فقد شكَل تجربة لافتة، إستطاعت أن تقدم خطابها الإبداعي المختلف بشفافية ذات خصوصية بشكلها المميز ومستواها الإنساني العالي، التي تمثل مطمحاً للقصيدة الكردية المعاصرة، كما في قصيدته "حسرة":
لا تحرجيني أيتها العاصفة الثلجية؛
و إلاّ سلمتك الى إحدى
قصائدي (الحلاجية) المجنونة، الغاضبة
فتحلجك، و تعيدك
قطن نسمة وجلة على سفح الربوات!
أيها المطر لا تضايقني؛
و إلا سلمتك الى جحيم عشق غربتي؛
فيرشقك بالنيران
و يعيدك
صوف بخار ممزق على ضفاف "سيروان".
و أنت يا ألم اللاجدوى و الهجران
لا تبرحني الليلة؛
و إلا أطلقت أثرك العاصفة و المطر؛
و سلمتك لقصيدة الشمس الحمراء لروحي؛
فتعيدك
حسرة صغيرة
لطفل أشقر من بقايا "الأنفال".
لقد كان وحشية النظام البعثي مهيمناً بكل مذابحه إلى إبادة الشعب الكردي، بالتدمير المادي، وبالتدمير المعنوي. إنَ إعادة النظر شعرياً إلى أبشع كارثة ، ما زالت تؤلمنا نحن الكرد، نجد أنَ الشعر لا يقدم سرداً تاريخياً لهذا الموت، بقدر ما يُعيد ذكرى شهداء كردستان:
إذا استطعتَ أنْ تعدّ عدّاً
أوراق تلك الحديقة..
إذا استطعتَ أن تعدّ عدّاً
كلّ الأسماك الكبيرة والصغيرة
في هذا النهر الذي يجري أمامك
وإذا استطعت أن تعدّ عدا
الطيور في مواسم الهجرة
من الشمال إلى الجنوب
ومن الجنوب إلى الشمال
وقتها أعدكَ بأنني سوف أعدُّ عدّاً
ضحايا وطني كردستان!.
إنَ تجربة شيركو بيكس الشعرية، تقف اليوم قوية أمام التاريخ، وأمام الحياة، وأمام الوقائع. وسيبقى هذا الشاعر الخالد بخصوصيته الشعرية مصدر أمان للثقافة الإنسانية.
لذلك كان بيكس يُعيد النظر إلى الشعر، بصفته التجسيد الحقيقي للهوية الوطنية والقومية. إنها خبرة شاعرٍ يثق بالمستقبل، من خلال الرؤية التي ينتمي إلى عناصر الحياة، لا إلى عناصر الموت:
كل يوم
تستطيل إحدى عيني،
ترحل إحدى يدي، وتهجرني..
وأنا ـ كل ليلة ـ أرض حزن بور.
في النهار، يحرثني ظمأ شهيد مؤنفل..
جئتُ، لتعلمني الريحُ كيف أخوض في النهر.
جئتُ، ليعلمني الحجرُ كيف أنبتُ عليه.
جئتُ، ليعلمني الجذر من أين أنفذ إلى قلب الأرض.
جئتُ، لتعلمني الوردةُ كيف أجمِّل القصيدة.
جئتُ، لتعلمني الطيور كيف تحلِّق رؤيتي.
بل جئتُ، ليشتعلَ في أعماقي هذا الحريق الهائل لعشق الوطن.
وها أنا، واثق كالحقيقة في هذا العشق الكثيف،
هانىء البال في مضيق الدخان والرعب، كرقصة الحرية.
بهذه البلاغة ، يمنح الشاعر الصورة الشعرية، تركيبة جديدة، وعمقاً شعرياً لافتاً في السياق الشعري المتميز. إنه لسان الكرد في تفجره وألمه وحزنه وحواره مع الآخر. بمعنى أن بيكه س في كل ما كتب ودوّن ينطلق من خصوصية الأرض المترعة بالآلام وربما لهذا السبب ولارتباطه العميق بالجذور والأرض والتاريخ تمكن من أن يجد قراء لقصيدته في كل بقاع الأرض.
إذ إن من أهم سمات هذه الأعمال الشعرية انها تكشف عن هموم الإنسان الكردي و معاناته و طموحاته و أحلامه، وفقا للروح المبدعة، و حداثتها الرؤيوية للحياة و الواقع و الكائنات من حولها.
هكذا تبدأ القصيدة من الذاكرة التاريخية لمأساة الإنسان البريء في زمن التوحش، بتشكيل قناعي موصل إلى الحقيقة، من خلال وعي إبداعي يتيح لنا أن نتأمل أشياء أخرى من وراء النص.
فأناقة قصيدة شيركو بيكس، و تماسكها الدلالي، تؤسس شبكة من الإشارات، تحدد جوهر العنصر الدرامي، الذي يقوم على المفارقات اللفظية، من خلال هاجس الشقاء الكوردي، المشغول بقلق الوطن، و بقلق الحرية. ومن من خلال التصميم بالتمسك بكل ما يمت إلى الإنسان الكردي ، برغبة جامعة للشعر، في شراكة المصير الإنساني، الذي يختلط فيه الإدراك العقلي بالإحساس العاطفي، ضمن مناخ يتلاقى فيه المشاعر والأفكار، في المشاركة في بناء عالم إنساني أفضل وأجمل للأشواق الخالدة للحرية والكرامة والعدالة والسلام، محاولة الارتقاء بكل ذلك نحو مصافٍ انسانية أرحب، بحيث لا تستطيع الذات الشاعرة إكتشاف الحياة إلا فيها.
لقد أضاف شيركو بيكس في مجمل أعماله الشعرية روحاً جديدة، و وعياً جديداً، ملامساً بذلك ألم الإنسان الكردي، وأمل وحدته إزاء وطن مقسّم إلى أربعة أجزاء، بمسحة إبداعية تتجاوب بشكل واضح مع الميل القومي المشحون بعاطفة كردية مستندة إلى واقع واضح، تشكل رؤيا إنسانية تجاه الوطن "المحصور" بين طيات التاريخ اللاواعي بهموم المقهورين والمقموعين:
مات مطرٌ
فأقامت الأرض
له مأتماً عظيماً
في أحدِ الحقول
ثلاثة أيام
وكان أكثر المعزّين بكاءً
وأشدّهم حرقة
طائر قرية مُرَحّلة!.
هذا هو شيركو بيكس: شاعر الحرية والأمل والكرامة والوطن والأنفال و حلبجة. وبما أن فعل الكتابة الشعرية عنده، مرتبط دائماً بالجذور، فإنه يستمد ألمه من علاقته الحقيقية بالواقع، بحيث يخضع هذا الفعل الكتابي، إلى الاستعمال الموظف، والحامل للمعاني التي تحتوي على فكرة.
وكما لا يكاد يخلو زمن كردي من طاغية، فلا يخلو زمن كردي من شاعر عظيم أيضاً.
كل ما سبق يُشير إلى أن الأعمال الشعرية لشيركو بيكس – ضمن هذه الدراسة- هي قصائد "نصف قرن" من الإبداع، لشاعر خدم القصيدة الكردية، كما خدم القضية الكردية. وهي – في كل الحالات – صورة مشرقة، وشمت اسم صاحبها، ومنحته هوية شعرية خالدة.
*جريدة الاتحاد 8/3/ 2014