اللغة الأم في وجدان المرأة الآفارية
التاريخ: السبت 07 نيسان 2012
الموضوع: القسم الثقافي



  سالار علو

عندما نقرأ قسم اللغة في رواية بلدي لرسول حمزاتوف , تشدّنا مقاطع مثيرة عن حب المرأة الآفارية للغتها الأم, و مدى إدراكها لأهمية هذه اللغة التي تسري أحرفاً و مفرداتاً في دمائهن , إنّ اللغة الأم بالنسبة للنساء الآفاريات الجبليات هي مسألة حياة أو موت .
يقول حمزاتوف في رواية بلدي: إحدى النساء صبًت على رأس امرأة أخرى هذه اللعنة:
(ليحرم الله أولادك اللغة التي تتكلم بها أمهم) , حين كنت أكتب (قصيدتي الجبلية) احتجت إلى لعنة أضعها على لسان امرأة شريرة في القصيدة, فقيل لي: إنّ امرأة كهله تعيش في إحدى القرى لا تستطيع جارة من جاراتها أن تجاريها في السباب , فتوجهت فوراً إلى هذه المرأة العجيبة ,


 اجتزت عتبة البيت الذي كنت أقصده ذات صباح ربيعي لا يرغب القلب فيه أن يلعن و يشتم, بل أن يفرح ويغني , وبكل بساطة قلب أخبرت المرأة العجوز بما أنا آت من أجله, الأمر كذا و كذا , أريد أن أسمع منك لعنة كأقوى ما يمكن و سأسجلها و أضعها في قصيدتي.

-  ليجف لسانك , و لتنسى اسم حبيبتك ,وليفهم الإنسان الذي تقصده كلماتك على غير معناها , ولتنسى إلقاء التحية على قريتك حين تعود إليها من تطواف بعيد , و لتصفر الريح في فمك حين تسقط أسنانك ....... يا ابن آوى ,هل أستطيع أن أضحك (و ليحرمك الله هذه النعمة) حين أكون مغمومة ؟ هل يكلف البكاء غالياً في بيت لم يتوفّ فيه أحد؟ هل أستطيع أن أتفوه بلعنة , إذا لم يغضبني أو يشتمني أحد؟ أخرج , و لا تأت إليّ بعد هذا بمثل هذه المطالب الغبية؟
-  شكراً لك أيتها المرأة الطيبة ـ قلت و خرجت من بيتهاـ .
وفي الطريق أخذت أفكر : (إذا كانت هذه المرأة صبّت على رأسي دون أي كراهية ,هكذا على الماشي , مثل هذه اللعنات الرائعة, فما عساها تقذف في وجه من يغضبها حقاً).
أعتقد أن أحد الدارسين للتراث الشعبي سيضع ذات يوم كتاباً عن لعنات أهالي الجبال , وسيعرف الناس عندئذٍ مدى ابتكارهم و مهارتهم و سعة خيالهم, وكذلك مدى قدرة لغتنا على التعبير.
وقد سمعت في إحدى القرى امرأتين تتبادلان الشتائم:
-  ليحرم الله أطفالك من يستطيع أن يعلمهم اللغة.
-  بل ليحرم الله أطفالك من يستطيعون أن يعلموه اللغة.
إلى هذا الحد تكون اللعنات مرعبة في بعض الأحيان , لكن في الجبال , وحتى بدون لعنات , يفقد الإنسان الذي لا يحترم لغته الأم احترامه فالأم الجبلية لن تقرأ أشعار ابنها , إذا كانت مكتوبة بلغة فاسدة.
حين عدت من باريس بحثت عن أقارب الرسام الداغستاني الذي ألتقيته هناك.......... و لدهشتي تبين أنّ أمه مازالت على قيد الحياة, و بحزن أصغى أقاربه الذين اجتمعوا في البيت إلى حديثي عن ابنهم الذي ترك وطنه و استبدل به أرضاً غريبة , لكنهم كما يبدو كأنما غفروا له, كانوا مسرورين لأن ابنهم حيٌّ مع هذا.
وفجأةً سألتني أمه:
-  هل تحدثتما بالآفارية ؟
-  كلا, تحدثنا بوساطة مترجم , كنت أنا أتكلم بالروسية , و ابنك بالفرنسية.
غطّت الأم وجهها بطرحةٍ سوداء كما تفعل النساء حين يسمعن بموت ابنهن.
كان المطر ينقر على سطح البيت , و كنّا نجلس في آفاريا, و على الطرف الآخر , في باريس , ربّما كان ابن داغستان الضال يصغي هو أيضاً إلى صوت المطر.
وبعد صمت طويل , قالت أمه:
-  أنت مخطئ يا رسول, لقد مات ابني منذ زمن بعيد, هذا لم يكن ابني , فابني لم يكن ليستطيع أن ينسى اللغة التي علمته إياها , أنا أمه الآفارية.
هكذا كتب حمزاتوف في رواية بلدي , هذه المقتطفات من هذه الرواية الرائعة للكاتب الداغستاني تظهر مدى وعي المرآة الآفارية و إدراكها لأهمية اللغة الأم , فاللغة الأم عندها هي مسألة حياة أو موت, وجود أو عدم .
إنّ اللغة الأم هي ثروة و كنز وفيها دواءٌ لكلِّ العلل , وتستطيع أن تعبر بها عما تريد, أما من يقول عن لغته الأم أنها لغة صغيرة و فقيرة , و قراؤها قلّة , و لا يمكن الإبداع بها , ويبحث لنفسه عن لغة أخرى غنية و كبيرة دون أن يتقنها , فشأنه يكون كشأن الجدي في الأسطورة الآفارية  (ذهب الجدي إلى الغابة لينمو له ذنب ذئب , فعاد حتى بدون قرنين).







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3838