(قريتي و عاشت الحرية) قصتان قصيرتان
التاريخ: الأحد 11 ايلول 2011
الموضوع: القسم الثقافي



غاندي برزنجي

قريتي

لم تكن قريتي التي تبعد بضع كيلومترات عن المدينة أفضل حالاً من باقي القرى التي يسكنها الكورد بل أنها وعلى حد زعم القرويين مغضوب عليها والسبب كما يقولون هو تواجد معظم الأحزاب الكردية فيها وليس هذا فحسب بل أنّ بعض قادة تلك الأحزاب هم من أبنائها لذلك فإنّ البلدية لا تضعها على جدول اهتماماتها ، فالطرق غير معبدة وعليك في فصل الشتاء أن تلبس في قدميك الجزمة البلاستيكية حتى تنتقل من بيت لآخر كما أن سيارات القمامة لا تأتِ إلى القرية مطلقاً بل يعتمد القرويون على مجهودهم الشخصي لتصريف القمامة إلى بقعة أرضٍ بعيدة عن القرية .


وما يميز قريتنا عدا ذلك هم أهلها الطيبون والذين يجمعون بين الطيبة والبساطة من جهة والنكتة و الغرابة من جهة أخرى 

فإمام القرية مثلاً و هو رجل ناهز السبعين من عمره تقريباً ، متوسط القامة ، حليق الذقن تبدو على قسمات وجهه علامات القوة والرجولة ، يهتم بالسياسة أكثر من اهتمامه بأمور الدين والفقه ، حاد المزاج ، لا يستطيع أحد من أهالي القرية مخالفته في الرأي .

كان في كل عام وفي السادس عشر من شهر آذار يصعد إلى المئذنة ويدعو الناس للوقوف خمس دقائق صمت على أرواح ضحايا مجزرة حلبجة وفي إحدى المرات عرفت الأجهزة الأمنية بالأمر فطلبته للتحقيق معه وسأله الضابط إذا كانت المآذن تستخدم للآذان أم لدعوة الناس للتجمع فرد عليه شيخنا وهل المآذن هي للآذان أم لدعوة أهالي القرية لتلقيح أبنائهم ...

فسأله الضابط عن سبب إلقائه خطبة الجمعة باللغة الكردية 

فقال للضابط : إنّ معظم أهالي القرية لا يتقنون اللغة العربية وبالتالي فلن يفهموا معانيها وتكون باطلة كما أنّ هناك آياتٍ في القرآن الكريم لا يفهمها حتى العربي إن لم تشرح له 

فقال الضابط وكيف ذلك 

فردّ عليه شيخنا : نعم وأنت لا تعرف معناها إن لم أشرحها لك وأنت الدارس والمتعلم

وعندئذٍ أحمرّ وجه الضابط وقال ماذا تقول 

فقال شيخنا إذاً اشرح لي معنى هذه الآية :

بسم الله الرحمن الرحيم 

والعادياتِ ضبحاً ، فالمغيراتِ صبحاً ،فأثرنَ به نقعاً ، فوسطنَ به جمعاً .

فقال الضابط : وهل هذه آية من القرآن

ردّ الشيخ : نعم

وعندئذٍ أدرك الضابط صحة كلام شيخنا وسمح له بالمغادرة.

أما سمّان القرية فهو رجلٌ بخيلٌ جداً لدرجةٍ أنه يحرم أبناءه من الطعام أحياناً 

هو رجلٌ طاعنٌ في السن لكن قامته لا تزال مستقيمة يضع على رأسه قبعةً قديمة بالية ربما يصل عمرها إلى خمسين عاماً 

جاءته في إحدى المرات طفلة من القرية تريد شراء كيلو غرام ٍ من التفاح وعندما قام السمان بوزنها وجدها أثقل فاستبدل تفاحة كبيرة بأخرى أصغر فوجدها لا تزال أثقل 

أعاد الكرّة عدة مرات فلم تتوازن الكفتان فأخذ إحدى التفاحات وأكل منها جزءاً وأعادها إلى الميزان لتتوازن الكفتان فما كان من الطفلة إلا أن تحمل التفاحات وترميها في وجه السمان البخيل .

أما خليل فكانت له مواقف وقصص غريبة كان أهل القرية يقصونها في ليالي سمرهم

فعندما رسب ابنه في الثانوية العامة كان يقول لأهل القرية أكيد أن ابني قد ظلم فكيف يرسب وخطه أجمل من خط الرئيس .

مرت السنون وازدادت ظروف القرية سوءاً وقلت الأمطار فبارت الأرض ويبس الزرع وازداد عدد العاطلين عن العمل فقرر أبناؤها الرحيل وأصبحت القرية شبه خالية إلاّ من العجزة والنساء

اختفت النكتة من قريتنا وأصبحت وجوه ما تبقى من القرويين عابسة حزينة على أبنائها وبقي شيخ القرية صامداً يحثهم على محبة بعضهم لبعض ويطمئنهم أنّ الراحلين عائدون وإنّ حب الله والوطن يسمو فوق كل شيئ.

عاشت الحرية

لقد كانت هذه نهاية متوقعة لأمثالي، الذين يقودون سيارتهم بسرعةٍ  جنونيّة ،وكانت الشاحنة الكبيرة التي ظهرت أمامي فجأةً قدري المحتوم.
لم أعرف في البداية أنني مت ، وعرفتُ هذه الحقيقة المرّة ، فقط عندما سمعت الأشخاص الذين تجمعوا في المكان يقولون لبعضهم لقد مات السائق.
كنتُ أشعر بكل الذين حولي، لكنني كنت عاجزاً عن الحركة، أو حتى الكلام ....
لقد متُّ حقاً...
حملني شخصان إلى إحدى السيارات ،وأخذاني إلى المشفى ، وهناك وضعوني في برّادٍ ضخم ، وما هي إلّا سويعات قليلة، حتى جاء الإخوة والأخوات ، وبعض الأصدقاء و الأقرباء ، وأجهشوا عليّ بالبكاء والنواح،ثمّ تمت مراسيم الدفن،  ووجدتُ نفسي بعدئذٍ في قبرٍ ضيّقٍ مظلم ، وشعرتُ بحركة الناس وهم يغادرون المقبرة وبقيتُ لوحدي
لأولّ مرة أشعر بالوحدة...
إنها وحدة حقيقية...
لكن لم تمرّ سوى هنيهات قليلة ، وإذا بشخصين متقدمين في العمر،  يشبهان بعضهما كثيراً من حيث الهيأة ، فكلاهما يملكان لحية بيضاء طويلة،  وحاجبين أبيضين كثيفين،  ويلبس كلّ واحدٍ منهما جلباباً أبيض ، وفي يد كلٍّ منهما عصا غليظة.
لم أحتر في أمرهما كثيراً ، لأنني تذكرتُ كلام جدي لي : (يأتي ملكان من عند الله ويسألان المتوفى من ربك وما دينك ) وعندما قلتُ لجدّي: وبأيّ لغةٍ يسألان قال لي: بالعربيّة
فقلتٌ لجدي: وهل الملائكة عرب
فردّ عليّ وقد أحمرّ وجهه العربية لغة القرآن
فسألته: وكيف سيفهم الرجل الإنكليزيّ والفرنسيّ أسئلة الملاكين
أجابني: الله قادرٌ على كلّ شيء،  سيجعلهما الله يفهمان ويردان على الملاكين
فقلتُ له :ولِم لا يجعل الله الملاكين يتحدثان بكل اللغات
فردّ جدّي غاضباً: أيها المنافق اصمت ولا تكفر
اقترب مني الملاكان قائلين معاً : السلام عليكم
فرددت وعليكم السلام
ثمّ بدأا بسؤالي باللغة الكردية وليس العربية كما زعم جدّي
فقلتُ لهما : كم أنا سعيد بأنكما تتحدثان لي بلغتي،  ففي الحياة كانت لغتنا غير معترفٍ بها ، كما أنّ أجهزة الأمن عندنا أبعد الله شرها  عنكما ، كانت تعتقل المدرسين الكورد الذين كانوا يعلمونها للناس
أجاب أحد الملاكين : الله لا يفرق بين أحدٍ من عباده
غادر الملاكان المكان،  فأحسستُ للمرّة الأولى بأنني إنسان
صحيح أنا ميت،  لكنني أشعر بوجودي وكياني
غمرتني الفرحة ، ومن شدة سعادتي صرختُ بأعلى صوتي:
فلتسقط التفرقة ، عاشت المساواة
عندها سمعتُ صوت أحدهم يقول لي : اصمت ، ما هذه الشعارات الغريبة ، هيّا خذوه
يا لتعاستي،  لم تكتمل فرحتي،  فأجهزة الأمن موجودة حتى في القبور
جاء رجلان واقتاداني معهما ، وفي الطريق لم يكن يراودني إلّا سؤال واحد
كيف سيعاقبونني وما هو شكل العقاب
فأنا ميت والميت لا يحسُّ ولا يشعر بالألم
أطلقتُ ضحكة عالية أيقظت الموتى من رقادهم وناديتُ بأعلى صوتي عاشت الحريّة
Xandi971@hotmail.com






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3625