الموجز عن سيرة حياة ( مشو بكابور برازي ) (1/4)
التاريخ: الجمعة 27 تشرين الاول 2006
الموضوع: القسم الثقافي


الموجز
عن سيرة حياة
( مشو بكابور برازي )
الفنان الشعبي لمنطقة كوباني وباقي اجزاء كردستان
ونبذة عن وأدبياته


بقلم المهندس :
 فاضل مشو بكابور برازي
المقدمة

اصطحبني – ذات يوم – أحد الأصدقاء إلى بيته مدعيا أن لديه ضيفا غريبا يعزني, كان قد غاب عني مدة طويلة.
وفي شرفته الواسعة المجاورة لإحدى غرف المنزل , انتظرت القادم الغريب , وما هي إلا لحظات مرت بصمت , وإذ بي اسمع صوت الناي الحزين ينبعث من الغرفة , ثم انطلق في أعقابه ذلك الصوت الذي كنت قد فقدته منذ أمد بعيد .
حينها .. صرخت قائلا: هذا أبي ..


فقال صديقي : نعم .. انه هو ذلك الضيف الذي حدثتك عنه , هذا صوت أبيك (نشو بكاب ور برازي) الذي كان يوما ما قد رددت صداه هامات الجبال ونسائم سهول كردستاني .. انه تسجيل لأغنيته الشهيرة (سيام ند وحج) , وقد حصلت عليه من مستشرق ألماني ..
ولم يخفِ صديقي هذا أسفه العميق عني , حينما أشار إلي بإصبعه قائلا :
انتم أبناؤه الذين قضيتم معه عشرات السنين , ولم تستطيعوا أن تدونوا له شيئا من أدبياته التي لا يخصكم وحدكم فحسب , بل تخص جميع الناس من بني جلدته .
وأشاح عني بنظره وهو ينفث دخان سيجارته الذي انطلق في الهواء بارومياته الدائرية .
حينها .. شعرت بتنامي دوار عنيف في راسي كاد أن يوقعني أرضا , وتلقيت أسئلة عطشى محيرة من ذاتي , وكلها كانت تصب في جهة التقصير بالواجب تجاه أبي .
ومنذ ذلك الحين بدأت استجمع ما تبقى في ذاكرتي من أحداث ومجريات قصصه الغنائية وقصائده الوطنية التي كلن يرتجلها بيننا في أمسيات تضم الأهل والأصحاب .
وعلى دروب البحث عن حلٍ ما .. توصلت إلى جواب شافٍ لتلك الأسئلة التي كانت تنوش على قلبي كالسهام , ومن لي بردها غير الذي هو بها ..؟
وفي باكورة من أعمالي الأدبية راح قلمي يسير ببطء على صفحات القرطاس مخرجا له حتى الآن , قصتي (ممىالان وزين – تيار وغزالة) وسيتابع سيره إلى (سيامند وخج – بنفش – عيشا ايبى – صالح وكز – و بيمال ) وغيرها .. تلكم القصص الفولكلورية المستمدة من التراث الكردي الأصيل .
وفيما يخص قصائده الوطنية .. فقد دونت منها :
( هاوار لاو ولاتو – ز سالي سي مه هافينه – كرمانج جه قاس برن – از جومه شامي باكي ) ولم انسَ أن أدون له أيضا موجزا مختصرا عن مراحل حياته الطويلة في مسيرة الأدب الكردي المرتجل .
والآن .. فقد انقضى نصف قرن على وفاة (مشو بكابور برازي) , ولا يزال يراودني الإحساس بالخسارة على ما دفن معه الكثير من نتاجه الأدبي المرتجل , الذي كان قد بقي ردحا طويلا من الزمن ولم يأخذ طريقه إلى النور , وبلغ منه النسيان ما بلغ , وقد ضاع منه الكثير منذ بدايات القرن العشرين ذلك العصر الذي عاش فيه في ظل التبعية وتفشي البطالة والفقر , وإهمال التعليم في مناطق كردستان الغربية , تلك العوامل التي أدت أنذلك إلى تهميش دور الأدب والأديب الكردي في ظل غياب آليات التدوين من الساحة الثقافية -وخصوصا الأدب المرتجل-.
وما بعثني أيضا إلى كتابة اليسير من حياة (مشو بكابور برازي) في هذه العجالة , هو الرغبة الملحة من بعض الأصدقاء والأقرباء الذين لازالوا على قيد الحياة وعاشوا المراحل الأخيرة من حياته , واستمعوا إلى قصائده الوطنية , وقصصه التراثية باللغة الكردية المحلية والتي شكلت أحداثها ومجرياتها ملاحم تاريخية واجتماعية واقعة .
واستجابة إلى رغبتهم فقد بذلت وسأبذل كل ما في وعي من جهد لإبراز ما في هذه القصص من عمق المأساة مستعينا بالخيال أحيانا لطبيعتها باللغة الكردية لأنسج منها أسلوبا مترابطا في البنيان القصصي باللغة العربية على قدر ما يجود به قلمي من التعابير اللغوية المتداولة إرضاء لذاتي وتخليدا لذكراه .

المهندس : فاضل مشو بكابور برازي

الجزء الاول

سيرة مشو بكابور برازي

هو مشو بن بكر بن صالح بن عطو من بلدة (رها) في كردستان تركيا , ينتمي إلى عشيرة بزان(Pijan) البرازية .
تزوج أبوه بكر من امرأة كردية تنتمي إلى عشيرة (قره كًيجي) الرحل , التي كانت تستوطن على أطراف البلدة , وعرف (بكر) باسم بكابور أي (الرجل العنيد) ذلك لجرأته وعناده .
كان يملك بيتا متواضعا في (رها) , وأراض زراعية , ظل يعمل فيها فلاحا إلى أن توفت زوجته , فاختلف بعد ذلك مع أخيه الأكبر (حم كَاور) الذي كان شرسا وذو طبع حاد , حينها ذهب بولديه (ايبو ومشو) إلى عشيرة  (قره كًيجي) للعيش مع انسبائه , وهناك لم تطب له العيش كما خطط لنفسه , فرحل إلى قرية عثمانك التركية المجاورة لبلدة (كوباني) السورية , ليعيش مع أقربائه , وعشيرته (بيزان) , وظل ي هذه القرية مدة من الزمن يعمل مع ولديه في الزراعة إلى أن وافته المنية عن عمر ناهز السبعين عاما ..
أما ولداه ( مشو وأخوه الأكبر ايبو ) لم يستقر بهما العيش معا في مكان واحد , كانا قد افترقا عن بعضهما لأكثر من مرة وخصوصا بعد وفاة والدتهما (يازي) , حينها لم يكن مشو بكابور قد تجاوز الواحد والعشرين من عمره وكان شابا طموحا حالما قد تأثر كثيرا بالأغاني الشعبية والقصص الاجتماعية حيث عصفت به الآمال أن يكون اسمه على كل لسان في المنطقة , ولمَ لا .. وهو يمتلك صوتا جميلا وذكاء حادا وموهبة كبيرة .
ركز مشو جلّ اهتمامه بقصة (جبلى وبنفش) كباكورة لأعماله , وهي قصة اجتماعية من التراث الكردي تحكي عن الحب وعشق الطبيعة , وراح يربط بين أحداثها ومجرياتها بالشعر والنثر وانطلق بها يغني بإحساس المتلهف المبدع بصوت شجي ونغم حزين , فلاقت هذه القصة نجاحا باهرا لدى أوساط الناس , مما عززت لديه الثقة بالنفس والشعور بالمتعة .
وحينها لم يتردد (مشو) أن ينطلق بعد ذلك إلى عدد من الأغاني الأخرى التي شكلت لديه رصيدا من القصص الغنائية الممتعة المستمدة من حياة الشعب الكردي ومآثره الاجتماعية , يؤديها بأسلوبه الأخاذ وبألحانه المتميزة .. فاتسعت شهرته لتجتاح أمواج صوته العذب سهول ( دشتا سورجى ) الخضراء وتردد صداها تلال كوبانى وجبال كرداغ .
.. وباندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914م , وفي ظل الأحلاف والتكتلات الدولية , وما تلتها من عمليات التعبئة والاستعدادات لمجابهة أتون الحرب هذه - وفي أوج انتشار البطالة وتفشي البؤس والمجاعة في تركيا – سُـيق (مشو بكابور برازي)  من قبل السلطات التركية ضمن قافلة ضمّت المئات من شباب وكهول الشعب الكّردي إلى العراق مرغمين , لزجهم في الحرب الدائرة هناك دفاعا عن مصالحها.
وهناك .. في معركة الكوت والعمارة أصيب مشو بطلق ناري غير مميت في خاصرته اليمنى , وبقي في ارض المعركة دون إسعاف , حيث تمكن من الفرار ليلا متخفيا ومختفيا عن أنظار القوات التركية .. ذلك لعدم قناعته بالدفاع عن العثمانيين من ناحية , وعبثية هذه الحرب التي ليس للكرد فيها ناقة أو جمل , بل الانكى حين تم تقسيمهم حسب مؤامرة سايكس-بيكو المشؤومة .. وحينها سُجّل اسمه في عداد المفقودين.
كان يختبأ نهارا ويسر ليلا حتى وصل إلى قرية (عثمانك)  , بقى متواريا عن الأنظار فترة من الزمن , يتردد خلالها بحذر إلى قرية (سويرك) القريبة من بلدة (رها) , وبعض قرى (دشتا سروجي) , فلقي رعاية كريمة من (غالب بيك) رئيس عشيرة (بيزان) البرازية في تركيا , الذي قدم له كل المساعدة الممكنة للحيولة دون إلقاء القبض عليه من قبل السلطات التركية , وتقديمه إلى المحاكمة بجرم الفرار.
وباندلاع الثورة الكردية التي تزعمها الشيخ  سعيد البيراني عام 1925م - لتحرير الأرض والشعب في تركيا الكمالية - والتي أخمدت بوحشية لا مثيل لها , وتدلت من خلالها أجساد المناضلين الكرد مع زعيمهم البيراني على حبال المشانق في عاصمة الكرد (آمد = دياربكر) , واتسعت دائرة العنف والتنكيل وحملات الاعتقالات العشوائية التي طالت مختلف أطياف الشعب الكردي في أنحاء تركيا ترهيبا واضطهادا .
فان هذه الأحداث الرهيبة قد ألقت بظلالها الثقيلة على المشاعر الوطنية (لمشو بكابور برازي) , فتولد لديه الإحساس بالخسارة على الشهداء , وامتلأ قلبه حقدا وغضبا على هؤلاء المعتدين من جراء الممارسات اللاانسانية بحق الشعب الكردي والتنكيل بهم , فانطلق يشفي غليله مع بعض رفاقه الشجعان , بمقاومات فردية وجماعية هنا وهناك , والى إلحاق أضرار بالمعتدين في مواقع عديدة , ردا طبيعيا على الممارسات الشمولية الكمالية , نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.
- قيامه في سحر الليل مع عدد من رفقائه الملاحقين بالاستيلاء على العربة الخلفية من (فاركًَونات) الشحن لقطار الشرق السريع في محطة (كوباني ) , التي كانت مليئة بالتجهيزات والبطانيات والألبسة الخاصة بالجنود , بعد أن قاموا بفصلها عن القطار الذي كان معدا للانطلاق إلى بغداد , حيث تم دفعها من قبلهم على السكة الحديدية بعيدا عن المحطة واحرقوا محتوياتها - بعد حصولهم على ما يحتاجون منها.
- محاولته اغتيال والي متصرف (رها) ليلا , عندما كان يسير موكبه في طريق عودته من (عينتاب) , بعربة (حنتور) تجرها أربعة أحصنة , وفي هذا السياق يقول (مشو بكابور برازي) : انه كان قد عَلم هو واثنان من رفاقه بعودة الوالي من (عينتاب) إلى (رها) , فنصبوا له كمينا على الطريق , وأثناء المداهمة , وتبادل إطلاق النار تمكن من الصعود إلى العربة , فأطلق على الوالي عدة عيارات نارية محاولا اغتياله , لكنه سقط على الأرض أثناء حرد الأحصنة ودوران العربة حول نفسها , حينئذ أطلق عليه الوالي عدة عيارات نارية وهو ملقى أمامه على الأرض .. وبدا إطلاق النار بين الطرفين بشكل عشوائي وبكثافة كبيرة .. وفي عتمة الليل المظلم تمكن مشو ورفاقه من الهرب دون أن يصابوا بأذى .
وفي اليوم التالي تكثفت الدوريات الجندرما بحثا عنهم , وبمساعدة بعض المتعاونين معهم من الأهالي تم إلقاء  القبض على مشو بكابور , وسيق إلى سجن (رها) , وبقي هناك في معتقلة عدة اشهر ولم يتمكن رئيس عشائر البرازية بالمنطقة من إخلاء سبيله , حيث صدر بحقه حكما بالإعدام.
وأثناء تنفيذ الحكم , حشدت السلطات التركية الكثير من الأهالي لمشاهدة عملية إعدامه , لتكون عبرة لكل من يتجرا بالاعتداء على السلطة , والخروج عن قانونها .
كان الوالي رجلا مسنا , حاجا , دّينا , من سكان (رها) , فلما صدر هذا الحكم الجائر استيقظ فيه الضمير , , لاسيما أن الحادثة كانت قد مرت بسلام دون أن يصاب احد بأذى , فاعتبر نفسه قاتلا عن عمد إذا نفذ الحكم, وكان قلقا من هذا الهاجس فلا ينام من خشية الله .
وفي يوم تنفيذ الحكم , سُيق (مشو بكابور) إلى حبل المشنقة في ساحة عامة وهو معصب العينين , حينئذ .. اندفع الوالي إلى الإمام , ووقف أمام جموع الناس قائلا: أيها الناس إن هذا الرجل (مشو بكابور برازي) الذي ترونه أمامكم , هو الآن على قاب قوسين أو أدنى من الموت , كان قد أطلق علي عدة عيارات نارية نجوت منها .. ولم أمت , كما إنني أطلقت عليه وهو مرمى أمامي على الأرض سبع رصاصات قاتلة نجا منها بأعجوبة .. ولم يمت , فكانت هذه مشيئة الله أن أبقى وإياه أحياء حتى هذه اللحظة من تلك الواقعة , لان الآجال بيد الله وبأمره دون سواه , لذلك فإنني اسقط حقي الشخصي عن هذا الرجل , ولا أريد أن أكون جهارا سببا في إنهاء حياته ..
عندئذ: تعالت التكبيرات وزغاريد النساء من الجموع المحتشدة مهللين لهذا الموقف النبيل , ويذكر ان ولاة العثمانيين آنذاك كانوا يتمتعون بصلاحيات واسعة بما فيها العفو عن جرائم الإعدام , وأعيد مشو بكابور إلى سجن (رها) , حيث أفرج عنه بعد ذلك بكفالة غالب بيك رئيس عشيرة (بيزان) ..
وبعد مدة لم تدم طويلا عاد مشو إلى مسرح الأحداث , فأغار على العديد من نقاط المراقبة والمخافر ودوريات (الجندرما) التركية في المواقع القريبة على الحدود السورية التركية وغيرها كثير .
وفي غمرة هذه الأحداث تكثفت دوريات التحري والبحث عن (مشو بكابور) لاعتقاله من جديد , فاضطر حينئذ إلى ترك أراضيه وممتلكاته في قرية (عثمانك) و(رها) , واللجوء مع أخيه الأكبر (ايبو بكابور) جنوبا إلى بلدة (كوباني) السورية , واستقر فيها .
وهناك لم يهدا له بال – لأنه لم يعد يطال العدو يدا بيد - , فسرعان ما ارتجل عددا من القصائد الشعرية الوطنية التي كانت تلهج بها وجدانه رافعا صوته , والتي احتوت جميعها على مضامين محزنة عن مآسي وآلام الشعب الكردي , يحثهم فيها على التمسك بالأرض والجذور , وهذا ما أثار حفيظة الترك غضبا , فأصدروا بحقه حكما غيابيا بالقبض عليه وإعدامه شنقا حتى الموت مرة أخرى .. لإسكات صوته وكتم مشاعره , وترهيب الكرد .
بقي (مشو بكابور برازي) يعيش في سوريا لا يغادرها , يعمل فلاحا في الزراعة ويمارس هوايته في تنظيم القصص الغنائية التراثية والقصائد الشعرية بشكل مرتجل .. إلى أن توفي عام 1956م في بلدة (كوباني محافظة حلب) عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاما .

***

 







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=338