سديم الألم و مأساوية الوجود في (ترجمة البازلت) لسليم بركات
التاريخ: الأحد 09 كانون الثاني 2011
الموضوع: القسم الثقافي



  لقمان محمود

   يبحث الشاعر و الروائي سليم بركات، في مجمل أعماله عن الألم المتصل في سيرة الكردي المطعون و الممزق، من خلال الاشتغال على المكان، الذي هو اشتغال على شخصية حية، يعرفها في الواقع أو في أعماقه، عبر مسيرة ملآى بالفاجع من (مهاباد) إلى (حلبجة)، ومن (عامودا) إلى (ديرسم) كنزيف واحد في المشهد، و في المكان.
   إزاء هذه "المسيرة" يبحث الشاعر في مجموعته الشعرية (ترجمة البازلت) ليوسع الألم ذاته، الذي كان قد طرحه في أعمال سابقة، لكن بشبكة علاقات رمزية جديدة، تعي شساعة المأساة التي يصورها. حيث نكتشف جزء من هذه الحقيقة، في مسيرة سليم بركات الحياتية، كما هو واضح في هذا القول المؤلم:


   في كل مكان لم أكن مواطناً بحقوق مقبولة. لا ضمانات قط. شتات عائلة. أخوة مسجونون. أخوات في اصقاع كثيرة من هذا العالم. أوراق ثبوتية ضائعة. بلاد ضائعة. جواز سفر نصف مزور. هذا هو أنا.

   من هذا المدخل، سندخل إلى جهة أخرى من جهات الألم – جهات كردستان، والمعروفة "بركاتياً" بالشمال، و ذلك بتشريد المعنى في عمقه المتعدد، كي ندير حواراً سرياً بين المكان و الحنين، من أجل كشف حرارة هذا الألم "المتمظهرة" في الفعل اللغوي، القائم على العلاقات "اللمسية" للروح، والتي تؤدي بشكلٍ ما إلى إستقراء ما وراء المكان، للوصول إلى فهم شامل للحنين:
   سأرجع من هنا، من ظل نسيه أبي على ماء "الخابور"، يترقرق
   ملتصقاً بظلال آبائه الملتصقة بأغصان الغرب. لستُ موعوداً
   بثيران "داكوتا" لأحمالي، أو بثيران "التيبت": تبغٌ في سلالي.
مناظرات. قصف نحاس على مشارف الذهب.
سأرجع من هنا، من سطور الكتاب مبعثرة على سهول "نونغ كاي"،
بأشباهي التماثيل على اكتافها جروح الحمم الأولى سائلة كخيال
البزور.
   إمتداد هذا التفاعل بين الابن و أبيه، وبين الأب و أجداده، محاولة لتجسير الفجوة بين الماضي و الحاضر، و السعي إلى الاكتمال بالآخر، في احتمالاته الرمزية و الدلالية، سواء أكان ذلك على مستوى الأمكنة والحياة، أم على مستوى الهوية المستحوذة على المشهد قَبْلَ و بعد التدوين، أم على مستوى الجسارة التي تتهتك فيها الآلام و الكلمات، بحيث يصير "العام" في سياقها، تدبيراً "فردياً" مختزلاً إلى صورة الوجدان بتنوعه الكبير.
   وهو بذلك يخرج من حالة محاكاة الآلام المباشرة، إلى ما لا يحصى من الدلالات الأسطورية و التاريخية و الانسانية و الروحية، ووضعها في سياق شعري، يوسع دلالاتها الزمنية والمكانية، و يضفي عليها أبعاداً معاصرة.
   في هذا السياق تأتي (ترجمة البازلت) خارج تناسق المعنى التام، و داخل المكان ذاته الذي تحدده وهم القصيدة. وهو احتمال آخر صوب الألم الضائع لبرهة قصيرة، ريثما يتم تغليب عامل القسوة في مركز المصير المقلق، حتى يغدو دليلاً حقيقياً لمعرفة ما هو واضح و قريب من صورة الشتات الكردي المرتجل تفصيلاً حسب مقاس الأمم المحيطة بخزائن من الخيانات الطاهرة و المدنسة:
طووا معاطفهم بأناة.
وضعوها جانباً على المقاعد الأزلية.
وضعوا قبعاتهم جانباً.
وضعوا الرياح، و السهول، والجهات جانباً.
وضعوا الكون جانباً على البساط الخيش، الذي تلقفوا عليه
زيتونهم في حصاد الالق اللاذع كخريف.
وضعوا الأقدار جانباً، كي يشدوا بأيدٍ حرة على الأيدي الممتدة
إليهم من صدوع المعقول.
وضعوا أنفسهم ملبدة، كخيال الجوز، جانباً،
و أفاقوا مقتولين.
   الألم هو رهان سليم بركات، الأكثر قدرة على تمثيل مأسوية الوجود، وذلك من خلال النظر إليه كحالة إبداعية تستدل به على الحالة التوثيقية.
   وبعيداً عن أي تسوية اعتبارية ضيقة، يحيل الشاعر التكوين الأرضي من هيئته الصامتة، إلى هيئة الضرورة. إذ يرفع بمستواه  الأسطوري، في إمتداه الجغرافي، بما يومئ إليه واجهة الاحداث من كل الجهات.
   فما يجري في (ترجمة البازلت)، هو ما يجري في متاهة الأمكنة المعتقلة من إرث الانسان الواقف على حدس الجغرافيا، بحيث يرى الموت، و كأنه حالة أخرى للحياة:
هم هناك في المسالخ الفلك يستطلعون حياةً مؤجلة إلى
الغد، مؤجلة غداً بعد آخر إلى غد بعد آخر. يستطلعون
حياةً لم تكن إلا ما لا تعرف حياة عن نفسها، في الفجر
المائي، تحت الشمس الماء. هم هنا، شركاء في اللبس،
متزنون كالخطأ. والسماء هنا مذعورة تتشبث بالأثلام
في الكلمات.
أرخو ستائر بيوتهم المهجورة هناك على هضبة "حلكو"،
و ناموا قرب عشبة الدلبوث، التي لن تموت إلا معهم.
   المأساة التي تتنفسها (ترجمة البازلت) هي ذاتية و جماعية، باعتبارها الرئة المثبتة على هواء جمعي عالق سطراً بسطر تحت بصر اللانهائي، من سديم المعاني، كمهارة في الاختبار لمشيئة سليم بركات الشريك في ميراث الخيال.
   هذا التعزيز العلائقي يتعزز بكتاب (التعجيل في قروض النثر)، كما في هذا القول للسارد:
اللغة لم تعد وطناً آخر. هي الوطن الأول. وجودي منقطعاً عن كل شيء، لا يؤكده إلا ما يصلك مني لغة. قدري قدر لغوي. لا مهارات لدي أتدبر بها شأناً في توليد الكون الأصغر، أو الأكبر، أو الأفلاك "الخنثى" بين جنسين.. قدري توثيق الحياة، بمراتب هذيانها، لغة، وأن أصير بذاتي وثيقة تلك اللغة.
   ثمة علاقة بين حركة الارض، وحركة اللغة، وخصوصاً حين يتم التضييق على المكان، حيث يوقف الشاعر الزمن، ليعرض الارض في محنة المشهد التاريخي المذرّر لها، أو الدافع بها نحو الهاوية، كما هو الرعب المتكرر، تجسيداً لعنف لا يتطلب شهادة أحد، لتأكيده، لأنه هو ذاته وطن القصيدة، وهي تستعيد طاقتها للبقاء تاريخياً.
   فصورة الأرض – هضبة حلكو، المنذورة للعبث والخراب، هي التي يجري تركيبها على الورق، لتكون أكثر قابلية للبقاء على قيد الحياة. أنها – بحسب الباحث إبراهيم محمود – جماليات الأرض المهدورة، ومحاولة تصحيح المسار، من خلال التذكير بالجهة التي يشتبه فيها، وهي ذاتها الجهة القادرة على إبقاء الأرض في وضعية حياة، بعد التعرض لها، وتسمية ما عليها، كما هو عمل الأثنوغرافي، في صنافة الكائنات المهددة.
   لعلّ قولاً كهذا، يُعيدنا إلى أن الموت و الحياة شكلان لألم واحد، في شموليته القاهرة. هذا كقراءة مكشوفة لأوضاع الانسان الكردي:
تعبوا أن يحبوا. تعبوا من أملهم و يأسهم. تعبوا من بقائهم معذرة لا تؤخذ
على محملها. سئموا البطولة تريهم المعقول رخواً كالأسروع. أبيدوا
فعادوا من حدس الضباب في الجبل. وما حملوه من متاع حي، في العودة،
لم يولد من ماء، بل من همّ الحجر متشبثاً، في لوعته، بالسماء الفاترة.
أبيدو فاسترجعوا افتتان المعضل، وغرفوا، ملء راحاتهم، وهم ورقة
العفص – وهم الجهات أنها دين الغضب. ثابتون في الوقت بلا مكان.
يقين مهمل ينجز الصفقة بينهم وبين الوجود.
   هذا التنويع في "الألم"، عبارة عن تمجيد للخسارة الخالدة للكرد، و هم "ثابتون في الوقت بلا مكان "، كتركيز على موضوع "الأمل" كثيمة فلسفية، بطلها الملحمة الوجودية للألم الانساني العميق.
   و هو نزوع وجودي درامي بالدرجة الأولى، يعكس عنصر المكابدة و الاصرار في هذا الشعب الذي كلما "أبيدوا إسترجعوا" من جديد إلى أول الألم، أول الدم، أول الموت، و إلى أول السطر، كي يعاين الألم بألم آخر، في مكانه الأول، في مكانه الأبدي.
   فلهم عذرُهم في الرجوع – البقاء، بعدما أبقوا الغد على حاله، والمكان على حاله، والدم على حاله كشحوب "الألم الخالد" من فم الحقائق كلها على شفتي الوجود. لذلك فها هم قد:
أقسموا،
أمام كل
عبثٍ
قسم العبث.
أقسموا،
أمام كل
بطولة
قسم البطولة.
أقسموا
أمام كل
نكبة
قسم النكبة.
   فالقصيدة – ترجمة البازلت، لا تفضي إلى نقطة وصول، و كأنها تطويق للغيبوبة الانسانية في صورتها المفترضة من كل وجود متجانس في قدره الغامض للتبعة الأولى، لجغرافيا منتهكة، و لشعب منتهك، كمصدر يقيني يُشار إليهما بجسارة المبدع سليم بركات العائمة صوراً وبلاغات في طورها اللغوي السحيق، سفكاً للمعاني في تدبير الألم على وسعه:
حُزمتِ الأنقاضُ،
أُعيدتْ إلى ميزان النشأةِ الحجرية.
خُلطَ العماءُ، ثانيةً، بالنقش المنقذ،
و علقت الآياتُ متجاورةً و المعاطفَ
إلى مشجب الخلود الضرير.

الهوامش:
(1)- سليم بركات، ترجمة البازلت، دار المدى للثقافة و النشر، سوريا 2009.
(2)- سليم بركات، التعجيل في قروض النثر، دار الزمان للطباعة والنشر و التوزيع،
       سوريا 2010.
(3)- إبراهيم محمود، قتل الأب في الأدب: سليم بركات نموذجاً، دار الينابيع،
      سوريا – السويد 2007.
(4)- لقمان محمود، إشراقات كردية: مقدمة للشعر في كردستان، سلسلة خاصة
      بمهرجان كلاويز الأدبي الثالث عشر، السليمانية 2009.








أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3326