قراءة نقديّة وتقييميّة مختصرة لرواية" آرام سليل الأوجاع المكابرة" للأستاذ المحترم هيثم حسين من منشورات دار الينابيع 2006م
ممّا لا شكّ فيه أنّ أيّ رواية، مقالة، قصيدة، كتاب، في الكثير من المجالات والنواحي والأصعدة، الأدبيّة ، الثقافيّة، الفنّيّة، والفكريّة، سلباً وإيجاباً، قابل للتقييم والنقد، وأنا سأتطرّق إلى الرواية التي تحمل عنوان "آرام" للكاتب القدير هيثم حسين وبطريقة أدبيّة، شاعريّة، في جميع حقولها المتعدّدة الألوان، والغنيّة. من عصارة محتواها الشائق، استخلصت هذه العبارات، الواردة فيما يلي :
آرام ينفض غبار التاريخ عن عامودا المخلصة.
عامودا مدينة.. موطن.. وتاريخ، قائمة منذ بدء الخليقة، آرام القلق سليل الحوريّين والسوباريّين، من بين أطلال التاريخ من جديد ينفض غبار التاريخ عن الأكتاف، من عمق التاريخ العريق، من الرُقُم المدفونة فيه، مكابرة.. علوم.. ملاحم وأساطير الآباء والأجداد.. ينقل أصالة التراث القديم إلى كلّ الجهات..
القضيّة المنقَّب عنها بفؤوس المستكشفين لم ترَ النور قطّ على شفاه الأفق، بقيت تائهة ومعلّقة في زرقة السماء، شهاب يخلّف ألوان قوس قزح، أليستا (يوم القيامة بلغة الحوريّين) المعهود قام فيها.
آلهة الحبّ الخالدة خطت إلى الحياة من جديد، آرام الشاهد على المآسي ترافقه رسائل العشاق غدوّاً ورواحاً.. نافد الصبر لا يستنصح نفسه
مجنون عامودا ثمل، عنيدٌ لا نظير له، لا يأتمر بأمر أحد، ابن عامودا العريقة في جنونها، حمل منذ أكثر من ثلاثين قرن صرّة نصائحه على كتفه، كوجبة برغل قليلة الدسم محترقة *، كجبس باهت وفاكهة لم تنضج بعد..
من جديد يحاول محاولة كبيرة، من أجل الأحداث العاموديّة، *في موئل الحكم والذكريات الباهتة * فالأمل يبعث الذاكرة..
إنّ كتابة الرواية مسألة معرفيّة، سوداويّتها تفزع القارئ..
كفى.. أيّها العاشق العاموديّ .. امسح جداول دموع الحزن عن خدودك.. صلّ الدعاء الأخير لمدينتك..
* * *
لا تزال رسائل العشاق ترافقه غدوّاً ورواحاً..علوم وأخبار العشّاق تفتح معبراً في الزمن..
ارتعاشة ريشة القلم، تفسّر أسرار أحلام المتأمّلين، على صفحات بيضاء وسط غابات الحروف الصامتة، هم الذين يتحكّمون بجمال الكلمة، قوة الإبداع هي التي تكتب بالدموع، بمعاني نبضات القلب تعترف بها.
الجاهليّة خزينة الضعفاء..
لو أن أحداً يدري جيّداً، كيف يبحث في المكان، سيدرك أنّ الآمال لم تفقد فيها بعد..
آرام سليل الأوجاع المكابرة ، تقيُّ، دائم الإعجاب بنفسه، جسورٌ في سرد مآسيه، صريح صادق، أحياناً يجد نفسه، حامياً مظلّة الدين..
السياط توقظ الأموات من القبور، وكأس الخمر، يصيّر الندلاء أنبياء...
أخي.. ارفع كأس عامودا.. اكسر تماثيل الطغاة..على قبر الفتيان الشهداء؛ شهداء السينما، اقرأ حكم الأفيستا المبارك.
حرّر الحصان الجموح من القيد، لأجل عشيقته الأوروبيّة .. حرّره.
إيّاك أن تنسى خنجر أبيك، وكيس تبغه..
يا شارب الخمر الدم يغلي، لا تفكّر في الانتحار، ضع تاريخ الملاحم نصب عينيك، خاني، وجزيري، مم وزين، سيداي نامي، وجكرخوين أوسمة لنا، وذكريات مشرّفة، لا يطفئون شموع الأمل..
سليلو الأجيال المتنوّعة، يتطلّعون نحو قمم الجبال..
مسلّحٌ بالقلم، يلعن المتقاعسين، يقاوم لأجل البقاء، لا يهاب رهبة الموت وطنيّ دون وطن رعيّة مذَلّة، ضحيّة الحبّ، يقطّر الدم من عينيه..من القلب ينزل الدموع.. أيا مسكيناً يبكي على نفسه!
على شفاه الابتسامات .. عواطف جيّاشة، في مذبحة الحبّ، كمَّ الرجولة..
إنّ الحياة عشيقة غانية، ساحبة الأفكار، سارقة النوم، معدومة الحيلة.. بالكدر والألم لا تلحقّ بها.. لتكن آمالك يقظى وعد لأرضك..
* * *
الذكريات أكثر الأحيان مخادعة، النسيان هبة طبيعيّة.. ذكريات اللجوء، كوابيس الغربة والهويّة الأجنبيّة، لا تموت قطّ.
ضاقت الدنيا بالعاموديّين وانقلبت على رؤوسهم، حتّى الإله يأخذ النصائح والعبر من أفواه المجانين.
خلق في عامودا إنساناً، وعاش معها أيّامها ولياليها الهادئة، وتخطّاها بالمعاناة، قد هام بهذه المدينة، ومن روحه وجسده لا يرحلُ قطّ..على أجنحتها، سوف يذهب عمره مع الريح..
السخريات.. الحكم والأمثال ابتسامات على شفاهها.. من ذوي العيون الناعسة، التي لا نظير لها
* * *
آرام العائد من تيهه، العائد من رحلته المريرة، ثمل، عاشق ولهان، توقّف على عتبة تجربة عبثيّة، جريح المشاعر والأحاسيس، يمضي سني عمره في عامودا..
أيّها الأجنبيّ ! لا تتلفّت وراءك ! إن لم يهمّك الأمر،اختر فقط بقعة مباركة، من مسقط رأسك لأجل قبرك..
متحسّس من كلّ من حوله، مكتوم القيد، كسير النفس، آماله وأمنياته، في صحارى مقصوصة الجدائل.. تائهة..
كفى كفى وكفى أخي، الجرح عميق ونازف، انقطع أمله من المساندة، والدواء بعيد المدى..
على أبواب كلّيّة الطبّ، كالعبيد يبيع الشايّ، حتّى في يوم القيامة، ليس له إحصاء وسِجلّ، لا يستحقّ أن يكون له ربّ، ملاك عند أبواب الخطايا، بريء يلحّن الأصوات والألوان على حوافّ لوحة تشكيليّة، يُدَوْزِن الآلات الموسيقيّة بأصابع الملحّنين..
* * *
إنّ تلك الطفولة المشرّدة تحرق الآمال التي في داخله، وتخبّئها في الصمت مجهولة.. فهي طفولة بريئة، لا توقفها أيّ العراقيل..
قلق.. مشغول البال.. سريع البكاء، لا ينتظر حتّى الله كي يروّضه..
شيئاً فشيئاً، بريشة فنّانين تشكيليّين، يبذل أقصى ما عنده، لكنّ المساحة لاتسع لوحته، ألا ليت لو يحقّق مشاريع قبلاته في الأحلام ويصيّرها واقعاً ملموساً .. ينتقل من حلم إلى آخر.. مجنون الأحلام ، يلهث وراء السراب، يتمنّى تمنّيات غير مجدية..
"الكذب حمار دون لجام"، أبترُ لا يعترف بأسراره، مبدع في الأكاذيب، يدبلج في ظلّ الخيالات أحلاماً ممنوعة وحينما يفتح عينيه على اتّساعهما، تهرب منه مبكّراً..
لا يقتل بطولته في الأحلام أبداً.. زعيم القشامرة، أسد لا يُجارى، صيّاد الذئاب، يصارع الضبع فيصرعه، وفي السباق، لا يشقّ الغزال له غباراً..
متردّد كقربة مبخوشة، طبل الاستغاثة، متفنّن في نسج الأكاذيب، ساحر.. مليئة جعبته، ما فوق الأرض وما تحتها بادٍ له..
كيشو، عزّو، هجار، ميشو، آرام والأحدب أناس مجتمع عامودا، يذرون آلامهم فوق تلّ شرمولا..
كاللصّ وصاحب البيت.. تشبّثوا بعامودا..
قصّة طويلة، تاريخ من دون وضوء.. عاشق عامودا، فقط بذكر اسمها يسكر.. قاطع طريق لا ينسى الطوش.. مقدام لا يتراجع عن استرداد المنهوبات .. يلفو عليها..
كلّ من لا يعشق عامودا، بدهيّ أن لا يجنّ مطلقاً.. لو تكون عامودا جحيماً لن يغادروها.
لاجئ، مهاجر.. تجّار البشر المخادعون، باعوك على الحدود بأبخس الأثمان.. دع قيادك لعقلك، فلا زلنا في قلب الحدث، ومناسبتها قادمة إيجاباً..لا زالت الإنسانيّة، تتوافر بكثرة في بعض الأماكن، وحدها سكرات الموت تنتظرها، ودائماً إحياؤها مقاومة..
* * *
عامودا بانتظارك، الأمّ الحزينة تتأمّل عودتك، بالترجّي والتوسّل، لا توصل نفسها إلى أهدافها إنّه زمن المقاومة !
حتّى الحيوانات البرّيّة والمائيّة، ترجع إلى مواطنها الأولى، فلا تلقِ بحجرك على غير هدى، جهدك مقدّس ومبارك.. الهرب واللصوصيّة ليسا من شيم الكرام.
من عذريّة ليالي عامودا.. اكتسبِ الجرأة والشجاعة.. اجعلْها بذوراً.. وفي أفئدة الشبان ازرعها..
كم جميل لو أنّ الإنسان يقاسي من أجل أرضه! يفضَّل أن (ترى) تكون شاهداً المعاناة، المصائب والدمار في مدنك.. ضائقتك حينما تكون ذليلاً على أرضك، مقهوريّتك من قلب النار.. غريب عن الوطن، الفقر، اليأس والعوز عناوينك.. يُنظر إليك على أنّك طفل سفاح، يتماوج مع خدع الزمان، ما ظلّه سقف.. ما دفّأه لحاف.. باباً باباً يفتّش شوارع وأزقّة المدينة، يصاحب الكلاب ويحالفها .. جدّيّ يحارب العقلاء..
السجن الانفراديّ، السوط، التعذيب، التمثيل بهم والحيرة، ما أقصته قطّ عن موطنه عامودا.
إنّ الروائيّ يبعث عامودا في هذه الوثيقة، يخلّدها.
كفاك عدّاً للقرون..! لا تذرِ الشكوى عليها، فالشكوى دأب الضعفاء، ولينحدر دمعك على حقّك، لأنّ النضال يتطلّب معبراً، لا بدّ أن تنفتح له السواقي، حتّى بيت الله لم يحقّق مرادك، "والطائر لا يحلّق إلاّ مع سربه"، "الخرزة المثقوبة لا تبقى مع العطّارين." أمن يوم يا ترى يكمل فيه الأحدب دينه، يكفيه فخراً أنّه عاموديّ، ويفوح منه عبق مسكها وعنبرها.. حصان جموح.. لا تيْئس...! شبقه سيبدع في أولى النتائج، سيفك لم يصدأ بعد، لا تفرّ من جبهة المعركة، اكسر سلاسل وقيود الخوف، لا ترثِ لحالك كثيراً، فكلّ الجبال حدباء..
خجلك يبدي ملامح الاعتراف، بداية التخاذل تمطرك، لا تذبلْ الكرامة في ذاتك، أزل الحقد والحسد عن قلبك الانتحار دأب الضعفاء، حقّك في الحبّ مشروع، وكلّ من يسند نفسه إلى القدر،عديم الأمل..
فرج الذئب والانتظار، لن يجلبا لك الحظّ قطّ، فما نيل المطالب بالتمنّي، المقاومة تدقّ باب الخلاص، فمن الخير أن تسأل عن نفسك، عمّن جعلك أحدب ، بقاء الميْئوسين دائماً على الأمل، وبأنّ الغد القريب يبشّر بالتفاؤل..
السوداويّة والأمور المؤجّلة رأسمال سيّئ، اجعل نور القمر.. يوقظ عنفوان العشق..
يتحرّق على أنثى، يتلهّف على أخبار عشيقة فائقة الجمال، عسى أن يتحقّق حلم اليوم المشهود، ويتلمّس الجسد واقعاً.. لا تنزعج ! في كلّ يوم تشرق فيه الشمس، اصلح ذات البين بين الحقد والحبّ..
* * *
الشاهد شريك اللّصّ، القاضي حاكم الاثنين..
لو أنّ الأبنية بدون أسس وأعمدة، ستنهار بالكامل.. لو أنّ النصّ لا ينتقد سيبقى باهتاً يطاله الصدأ..
تجاعيد وجهه مثل فِلاحة حذاء الطريق، لا يتجرّأ أن يدلي بشهادته، والزمن أيضاً لا يدلي بشهادته، يقنّع أفعاله..
عامودا التي ولدت من تاريخ الفجيعة، انتقلت إليها رعود الانتفاضة من قامشلو..
آرام الراحل إلى التراث الأدبيّ، يتحدّث مع ظلّه، يدور في دوّامة الارتحال حول نفسه، كثير الأصدقاء يقاسي ألم التاريخ..
عند كولا عنتر، ضفاف نهر دارِى الجافِّ الحلق في عامودا الصامدة، ولا تزال تنتج المبدعين..
إسماعيل.. وحيندر.. وهوارو يتقاسمون ميراث عامودا..الوجهاء والإقطاعيّون، يقسّمون المجتمع فيما بينهم.. مشعر، أصلع، يتيم، كلّهم مجانين ومهابيل.. محمودٌ وعثمان.. ألوان الطيف العاموديّ.. دخلوا في طور النسيان.
كما أنّ نقد الكتّاب، لا يقبل من قلب الموضوع، عند ذلك، فإنّ روح عدم الاعتراف تهرب منه، ووباء الأنانيّة، والشهرة، يتكاثر في حقوله، كذلك، الخيط يبتعد عن الإبرة..
البطالة، الجهل، سادا المنطقة، في الوقت الذي ترقد فيه على النفط..
إنّ آرام لا يهتمّ بحبّ عقيم، فقد وهب نفسه لعامودا، وهو متفائل بأنّ عامودا ستنجب أجيالاً متتالية، وكأمثال الأستاذ هيثم ، سيربّون تلك الأجيال أبطالاً..
العوز مدرسة ميْئوسة، لكن فقط في عامودا هو نبع الإبداع..
لسان اسماعيلو و كيشو والأحدب الذين يبدعون للأجيال القادمة لساناً عامّاً وبليغاً.. من ركام الأطلال المدمّرة سيبنون قصوراً ومؤسّسات، سيودّعون أغنية الحزن والبكاء..
كنّا نعتقد أنّ عظام آرام، في طمأنينة تل شرمولا قد اهترت، وها هو كاتب الرواية النشط والواسع المعرفة، بعصا التنقيب يوقظها من ذلك السبات القاتل.. ومن جديد لأجل البقاء يستكشف التاريخ..
مداخلة الأستاذ إبراهيم محمود:
( وردت المداخلة مرتجلة وباللغة الكرديّة )
قبل كلّ شيء، مساء الخير، وأتمنّى أن تكون هذه فرصة جميلة للقاء بكم، حيث نحن في عامودا، وكما تعرفون أنا أكتب باللغة العربيّة، ولكنّي سأحاول أن أتحدّث بلسان أهل عامودا.
أذكر هنا بداية ذلك الملك الفرنسيّ الذي طلب من أحدهم في أن يتعلّم الإسبانيّة، وحين تعلّمها، طلب منه أن يقرأ رواية سرفانتس (دون كيشوت)، وفي هذا الإطار، ورغم أنّ رواية الكاتب هيثم حسين (آرام) مكتوبة بالعربيّة، فإنّها تتحدّث عمّا هو كرديّ، ويمكن تخيّلها بالكرديّة.
ورغم أنّني كتبت مقالة بالعربيّة عنها، هي (مستقرّات السرد)، نشرتها إنترنيتيّاً، فإنّ التحدّث بالكرديّة، هو للتواصل أكثر من خلالها.
إنّ كلّ حدثٍ مرتبط بوقته وبلسان من يعيش من خلاله، كما همو أنتم، هنا أنتم أصحاب هذا البلد . إنّ علاقة القارىء بما هو مكتوب، كما في رؤية حجرة مرمية في الماء، حيث يتمّ النظر في موقع الحجرة بداية، وبعد ذلك متابعة الدائرة التي ترسمها، والذي يتابع حركة الحجرة فقط، لن يستفيد شيئاً. والرواية التي كتبها هيثم هي هكذا، فثمّة من يحدّد موقفه منها، كما هو المتابع لكيفيّة سقوط الحجرة وغورها في الماء، ولكنّ الابتعاد عن المكان الضيّق، يمكّن من رؤية المثار أكثر.
لا أمارس أستذةً على أيّ كان، فلكلّ رأيه المختلف في الرواية، ولكن هل كلّ قول هو رأيه؟
النقد يظلّ مختلفاً بالنسبة للرواية من جهة الموضوع، والحدود، قرأت كتاباً قبل عدّة أيام للكنديّة، هي ( مرجريت أتوود)، باسم (مفاوضات حول الموتى: تأمّلات حول الكتابة)، ثمّة فصل حول علاقة الكاتب بموضوعاته، وآخر مع القارىء، تذكر أمثلة كثيرة، وتري أنّ تحديد الرواية من جهة التعريف والموضوعات غير ممكن، والروايات تكون مختلفة بذلك.
في هذا الصدد أذكر أيضاً، أنّني نشرت مقالاً بالكردية عن رواية حليم يوسف (خوف بلا أسنان)، وهي الرواية الأولى عن الحدث الآذاريّ، ثمّة اختلاف في الموقف، اختلاف كتابة مختلفة عن التاريخ، عن قامشلو عن عامودا...
بالنسبة لهيثم حسين، كتب عن عامودا، عمّا يكونه هيثم حسين، كتب عن حريق عامودا، وعن حريقه الخاصّ. حيث نرى مزجاً بين الشعر والنثر، الشعر الذي يجلو المأساة، والنثر الذي يكتبها، وهو حاول أن يكتب مازجاً بين الاثنين. ولعلّ الذي يتحدّث عن عامودا، ومن خلال موقفٍ ما من هيثم حسين، يكون بعيداً عن الرواية.
كلّنا يعلم ماذا قال فلوبير عن نفسه، بعبارته: أنا مدام بوفاري. لقد حمل في ذاته الذكر والأنثى. بالمقابل، يذكر الروائيّ ساباتو في كتابه (الكاتب وكوابيسه)، عمّا يجب أن تكون عليه الرواية، محدّداً على أنّ الرواية التي لا تُقلق الآخرين ليست رواية.
ما أقوله ليس تكريماً للكاتب هيثم حسين، إنّما هو رأي يخصّ الرواية والموقف منها.
هنا أتساءل، كمثال: تُرى من يكون آرام..؟ هكذا لا ننظر إليه، أهو شخص جيّد، شخص وسيم، شخص متّحد مع نفسه، وضعه السيكولوجيّ متّزن، لا.. كيف أصبح وما حال إليه !
و بعد رجوعه يقول هذه الكلمات! وفي النهاية وصل إلى المقبرة، بأسلوب نيتشويٍّ أو كجبران خليل جبران، ثمّة ما هو أبعد من هذا.
ما أقوله مجرد مثال، فآرام يحمل مفارقات، فيه السلب والإيجاب، وعلى هذا يمكن التعامل معه. ولا بدّ بالتالي التفريق بينه وبين هيثم.
لديّ الكثير من الملاحظات، لكن هذه الملاحظات تجعلني أتحرّك في عامودا وأعيش، الكثير من الأشياء تدخل عقلي، أنا حسب رأيي.. هيثم كتب عاموداه، وللأسف فعندما أقول لماذا كتب عن فلان وعلان؟ هنا يكون الخطأ، وهذا ليس سؤال الرواية ..!
حيندر خارج عامودا لا يصبح زيد وعبيد، إن غيّرتَ اسمه يجب أن يبقى حيندر، إسماعيلو يجب أن يكون إسماعيلو، هذا المكان يجب أن يكون هكذا، إنّه يحمل رؤاه، عندما أقول هذا النهر، كم يحمل من الأشياء الجميلة! وكم هو رائع!
معنى ذلك أنّ الرواية يجب أن تشوبش، تبحث عن (الشاباشيّة) (تزاود).
هو كتب عن حرائقه الشخصيّة، عن حرائق عامودا، ليست عامودا وحدها، كما قلت. عامودا مكان، نموذج أو مثال، لكنّ عامودا تمتدّ كثيراً ومن الجهات الأربع، عامودا قبل سنتين ليست عامودا 1937م، في هذا التاريخ كانت النار تأتي من (فوق)، في الحدث الآذاريّ، كانت أرضيّة.
إنّ الطوش، كما تمّ ذكره، هو: النهب، كان مرتبطاً بالنهب أو مرتبطاً بـ توش بالفرنسيّة، وتعني اللمس، وما في اللمس من مسٍّ....
في حدث عامودا قبل سنتين، النار بدأت من على الأرض، هؤلاء الذين هاجموا عامودا، كانوا من خارج عامودا، الذين كانوا قبل سنتين في هذه المنطقة، هنا يجب أن نفصلهم عن بعضهم، ونفرّقهم.
ومرّة أخرى أقول هذه الكلمة الأخيرة، وهذه ليست ملاحظة على أيّ كلمة تقال: إنّ كل واحد يقوم ويقول كلمته، هذه الكلمات التي يمكن أن تقال، الرواية قالت كلمتها بدورها، بمعناها الخاصّ بها.
يتوضّح في نهاية الأمر إن شئت أم أبيت، رواية آرام ستجد مكاناً لها، ودون شكٍّ ستدخل تاريخ عامودا وشكراً.
تعقيب هيثم حسين:
سأردّ بشكل عامّ. يقال: أن تقاضي الآخر على تفكيره لأنّه لا يفكّر مثلك، وتجرّمه أو تحاكمه، لأنّه ليس نسخة فوتوكوبيّة عنك، فهذا بحدّ ذاته إجرام. أعني عندما تحاسبني وتؤثّمني على عدم توافق وتطابق تفكيري مع تفكيرك.. فهذا منافٍ ومخالفٌ لما ينادي به كلّ واحدٍ منّا من حرّيّة الفكر، وحرّيّة المبدع. نحن نختلف لنأتلف، لم نأتِ لنتعادى.
حاولت في روايتي أن أبتعد عن الكلاسيكيّة، أحد الأساتذة ربّما قال إنّها كلاسيكيّة، وربّما قال آخر إنّها ليست حداثيّة حتّى، لربّما تعوّدنا نمطاً معيناً من الرواية: لها بداية وعقدة وحلّ، هذا الحلّ إن كان مرضياً أو غير مرضٍ، لابدّ منه. ويبقى حلاً بالمفهوم العامّ.
قبل أن أبدأ بكتابة الرواية قرأت أشياء كثيرة فيما يتعلّق بالرواية، لتعينني على كتابة الرواية، لم أُرد أن أكتب هكذا، أي دون ارتكاز إلى قراءات تنير لي سبيل كتابتي.
حينما جعلت الرواية قسمين: الأوّل: هناك.. بعد، والثاني: هنا، قبل .
هنا، وبعد، وقبل، في اللغة العربيّة ظروف زمانيّة ومكانيّة، عندما تُقطعان عن الإضافة، فإنّهما تدلاّن على الزمان والمكان، الزمان والمكان كلاهما هنا. هذا إذا تحدّثت في الجانب اللغوي..
"آرام" الشخصيّة المحوريّة والتي تحمل الرواية اسمه، هو آرام الظاهرة، آرام تركته بدون شكل محدّد ، لم يكن صعباً عليّ جعله رجلاً طويلاً أو قصيراً، يلبس نظّارة أو لا يلبس، عمره خمسون أو أربعون أو ثلاثون سنة..
آرام تركته كالكثيرين من الأشخاص في عامودا، هناك آرام في الخفاء، آرام في الليل، آرام في النهار، تركت آرام على نحوٍ ما شخصيّة حلوليّة، أحياناً يراجع آرام ذاته فيتحدّث عكسها، وإذا قلتَ لي: آرام هو أنت ؟ أقول: فيه بعض من صفاتي ولكنّه ليس أنا، وإذا قلت لي: أنت هجار.. أقول: أنا ولست أنا، كلّ واحد منهم هو أنا، وكلّ واحد ليس أنا، كما قال الأستاذ إبراهيم محمود قبل قليل على لسان فلوبير: أنا مدام بوفاري. نعم. أنا آرام ولست آرام ، أنا هجار ولست هجار..
وددت أن أوضّح عدّة نقاط لم يعلّق عليها أحد، وهي كيف يقرّر آرام الرجوع، وكيف يقرّر الرحيل، يتّضح في الزمن، نقطة الانتقال من الألفيّة إلى الألفيّة، نقطة انتقال القرن، عنصر الزمن له دور هامّ لا يستغنى عنه هنا لفهم التحوّل، أو إن شئت التناقض.. آرام يقرّر الرجوع وهو في قلب الجلبة والصخب، إذ وجد نفسه وحيداً في تلك الضوضاء. وفي نفس اللحظة في مكان آخر آرام يقرّر الهروب من الهدوء إلى الجلبة والصخب.. وددت هنا طرح فكرةٍ محدّدة بعينها وهي: عندما تموت فكرة ما في مكان وزمان محدّدين، فإنّها تولَد في اللحظة نفسها في مكان آخر، أي توالد الفكرة وعدم فنائها التامّ.
في نفس اللحظة بين الساعة الثانية عشرة والساعة الثانية عشرة ودقيقة، في دقيقة الالتقاء هذه، يتم تقرير فكرة، هذا يقرّر الرجوع إلى الهدوء والآخر يقرّر الهروب من الهدوء، آرام يتوزّع في المكان، يتبعثر، يكون أكثر من آرام واحدٍ، هنا وهناك..
أمّا بعضُ القرّاء العاموديّون – حصراً- فإنّهم لا يريدون (ولا أريد أن أقول: لا يستطيعون) أن يتحرّروا من نظرتهم إلى الرواية بقولهم: تاجرتَ بعاهة فلان أوعلان،.. يدي محترقة أقول عنها محترقة. لا أنفي ذلك!
وعندما تقول لي: وضعتَ نظارة سوداء حينما نظرت لعامودا. نعم. وضعت نظارة سوداء ونظرتُ بقلب أبيض، لن أنظر فوق غطاء النهر سأنظر تحت النهر، لن أغمض عيني وأقول لماذا جمّلوا النهر، سأفتح عيني وأنزل تحت النهر، إن كان الآن كذلك، فكيف سيكون بعد ثلاث سنوات، إن كان الآن نفق الموت واللواطة والتحشيش، سيصير نفق القتل والتقتيل والاستقتال...(وهنا قاطعني الأستاذ دحّام وقال: لماذا لا ترى العكس). قلت: لا أرى العكس لأنّ هذه المقدّمات الطبيعية تؤدّي إلى نتائج طبيعيّة، أبدأ من هذه المقدّمات بشكل واقعيّ، أجد بأنّه كانت هناك حلول أخرى. كما أنّني لا أملك الدعم الماديّ والقوّة المادّيّة لأساهم في وضع حلول لها، سأعرض المشكلة على الأقلّ، وهذا أضعف الإيمان. ودمتم .