هذا الغمز واللَّمز والتجريح (صاحب أغاني مهيار الدّمشقي، جولات فاشلة في نيل نوبل) كلامٌ لا مبرر له في معرض مناقشة قضية فكرية كبرى كقضية انقراض الحضارة العربية أو نهضتها و ازدهارها، لأنَّ الخلافَ مازالَ عميقاً بين رؤيتين: إحداها ترى بأنَّ العرب لم يحققوا شيئاً من الازدهار والتقدم، رغم مرور قرنين على بدء النهضة العربية، وأنَّهم تخلّفوا عمّا حقَّقَتْهَا أممٌ كانت تعيش في سحيق التخلف وانحطاطه، وبدأتْ نهضتُها بعد العرب بعقودٍ كثيرة، وارتقتْ إلى شموخ العلا؛ وأخرى ترى بأنَّ الحضارة العربية تعيش نهضَتِها، وهناك متَّسعٌ منَ الأمل بأنْ تزدهرَ، مستندةً في رأيها على وجودِ عشراتِ الأسماء الكبيرة لمثقفين ومفكرين، منهم مايزال يقدّم الكثير للثقافة العربية، ومنهم من يعيش في السّجون لرفضِهِ التَّصفيق لجوقة السلطة. وإلى هذا الأمر يذهب فواز الطرابلسي متفائلاً ومتأملاً بقيام نهضة
(( ولا ترى عين الانا المتضخمة العدد المتسع من المثقفين يقبعون في السجون ...ولانهم يقاومون «السلطات» ولا يرتضون الاذعان لوزارات الثقافة وينادون فوق ذلك كله بفصل الدين عن الدولة)) (جريدة السفير، العدد السابق). وأدونيس يختلف معه في هذا الأمر، فيرى بأنّ
((حياة الحضارات وحيويتها ونموّها وفاعليتها لا تقاس بأفراد مهما نبغوا، لا سيما أن الأدباء المذكورين ليسوا مدينين في نبوغهم للمؤسسات والبنى في مجتمعاتهم...)) وهذا الرأي أقرب إلى التحليل الموضوعي، العلمي، كنتاجٍ لإعْمَال العقل، لأنَّ معظم هؤلاء الذين ذكرهم الطرابلسي، إن لم نقل جميعهم، لم يرضعوا من ثقافة المؤسسات الرّسمية والبنى الاجتماعية، والمؤسسات الثقافية تلك، مازالَ قسمٌ كبيرٌ منها يجترُّ مفردات التراث المتهالك، ويعيشُ تحت ظلّه، والقسم الآخر يقومُ بوظيفةِ نقل الأفكار والنظريات من الآخرين، ويتيهُ في مسالكها، وذكرُهُ لتلك الأسماء يُصبِحُ دليلاً عليه وليس له. أمَّا ما ذهب إليه الطّرابلسي بأنَّ الثقافةَ العربيةَ
((اغتنت وتغتني من روافد من كل مكوناتها ومن كل من جاورها أو تفاعل معها من الشعوب والثقافات والحضارات المجاورة )). أمرٌ يدلُّ على جهلٍ كبير بالواقع العربي السياسي والثقافي، فوجودُ اسمٍ أو بضعة أسماء لمثقفين غير عرب، ينتمون إلى قومياتٍ أخرى تتعايشُ مع العرب، أو بجوارهم تاريخياً، لا يعني بأنَّ تلك الثقافة اغتنت وتغتني من تعدّدِ روافدها، وتتفاعل مع ثقافاتها، فإلى الأمس القريب كانَ يُساقُ المرءُ إلى عتمة السّجون لانتمائه القومي والديني في العراق، وكردستان العراق جزءٌ منه، وفي بلدانٍ أخرى مايزال المواطنُ يُلاحقُ بسبب لغته وثقافته، وانتمائه القومي، فأين تلك الروافد الثقافية التي تصبُّ في نهر الحضارة العربية التي يتحدَّثُ عنها الطّرابلسي؟
ثالثاً: الجانب الآخر الذي يستحقّ الوقوف عنده هو التباين الواضح بين الأسلوبين، أسلوب الطرابلسي الذي يميل إلى إلحاق الأذى والإساءة إلى ذات الكاتب، بدلاً من تقديم ما لديه من أدلّة تؤكد وجهة نظره، وتدحض رأي خصمِهِ، محاورِهِ، فكما ورد أعلاه لجأ هذا الكاتب في حواره غير المباشر مع أدونيس، عبر جريدة السفير، إلى التَّشهير به وتجريحه، بينما انصبَّ اهتمام أدونيس إلى إيراد الأمثلة والأدلة التي تؤيد وجهة نظره، في كلّ القضايا، السياسية والفكرية والثقافية، والاقتصادية، ويرى بأنَّ
((التّخلف ليس قدراً. والنهــوض، إذا كان معجـــزةً، فإنّ هذه المعجزة قد حققتها شعوبٌ لم تكن في ماضيها أعظم من العرب)). إذاً، يدلُّ هذا الكلام على أنَّ العرب لم يأخذوا بأسباب النّهوض، مما جعلهم يتراجعون في كلّ ميادين، ومع الطفرة النّفطية (زيادة القوة الشرائية لديهم) والزّيادة السّكانية لديهم (احتياجهم إلى مستلزمات الحياة المعاصرة) أصبحوا
((«ثروة سوقيّة» هائلة للقوى المنتجة في العالم )) حسب تعبير أدونيس الذي يذكر أمثلة كثيرة عن تقدم غير العرب وتخلّفهم، علمياً وسياسياً واقتصادياً، ويختتم ردَّه في زاويته بجريدة الحياة (مدارات) بشكلٍ تهكميٍّ على المحتجين قائلاً
((لم تنقرض «حضارتكم»، وهي لا تزال تجرّ أذيالها الباذخة)). وهكذا يستنتج القارئُ بأنَّ هذا الحوار لم يكن متكافئاً، حيثُ وقع الطرابلسي أسيرَ انزعاجه، واستخدامه الأسلوب العنيف الجارح، بعيداً عن إيراد ما يدعم رأيه، بينما أصاب أدونيس هدفه، في الابتعاد عن ذلك الجدل العقيم، ولجوئه إلى دعم آرائه بالشّواهد، ليقنع القارئ بصحّة وجهة نظره.