الموسيقى الكوردية بين الواقع والطموح
التاريخ: الأحد 30 اب 2009
الموضوع: القسم الثقافي



     برزو محمود

النقطة التي أود أن أثيرها في هذا المقال هنا هو أننا نستمع إلى كم هائل من الأغاني الكردية التراثية والحديثة، والتي تأخذ أشكالاً والواناً متعددة من الأنغام الكوردية الاصيلة، وتتميز بجمالها وسحرها، وتختلف عن موسيقى الشعوب المجاورة، إلا أننا لا نجد مقطوعة موسيقية واحدة بالمعنى العلمي للكلمة، أي الموسيقى الألية التي يمكن أن تعبر عن هوية الموسيقى الكوردية في الصيغة الألية مثلها مثل القوالب الموسيقية التي تسمى بالتأليف الموسيقي الألي كالسماعيات واللونكات الشرقية والآوبيرا والاوبيريتات الغربية والسمفونيات الشرقية والغربية ...الخ.  هذه الموسيقى تنتجها فرق موسيقية متنوعة في احجامها عددياً وتوزيعياً حسب مقتضيات نوعية وقالب التأليف الموسيقي والتي تقدم في صالات الموسيقى العامة. هذه الموسيقى لدى الكرد لم ترى طريقها إلى النور لسببين:


1. ندرة الكوادر الموسيقية في اداء هذه المهمة
2. الحاجة إلى مستمعين يتمتعون بثقافة موسيقية وتذوق خاص لهذا النوع من الفن الموسيقي علماً أن تكون هكذا جمهور ليس بعيد المنال في المجتمع الكوردي، بسبب تشكل شريحة كبيرة من البرجوازية الصغيرة ولاسيما أصحاب الشهادات الجامعية اذ يمكن أن يتذوقوا هكذا موسيقى نتيجة التطور الحاصل في مستوى وعيهم العام وثقافتهم الجامعية واختلاطهم بالمجتمعات الأخرى، هذا وأن الانترنيت يلعب دوراً كبيراً في الاطلاع على الثقافات الأخرى، وسماع موسيقاها مما يرفع من مستوى الوعي الفني والموسيقي. ومن الممكن أن يقدم الفنان أعمالاً تساهم في تنمية التذوق الموسيقي لدى الشعب بتعودهم على الاستماع إلى هكذا موسيقى.
  أن الأنغام الكوردية ذات الطابع الملحمي والنفس الطويل باعتقادي أنها تضاهي الطابع الهومري والجلجامشي في فضاءاتها الملحمية وخاصةً عندما نستمع إلى أغنية (سيامند وخجى) بصوت المغني عيسى برواري، ومجموعة أغاني (اللاوك) بصوت المغني محمد عارف جزراوي، وأغنية (درويشى عفدي) بصوت المغني سعيد أغا الذي يتميز بـ(طبقة التو alto) الصوت الرجولي ذو التموج الطيفي والذبذبة الموسيقية في أدائه الصوتي المديد إذ يأخذنا بطبقاته وأنغامه الكلاسيكية إلى عالم الخيال حيث السحر والجمال، وكأننا نطير على جناح طائر جبلي يحلق بنا في الهضاب والجبال والوديان. أن ما يمكن وصفه لا يمكن أن يعبر عن حقيقة مكنونات الانغام الكوردية الكلاسيكية كماً ونوعاً. وهنالك مقامات موسيقية كوردية متداولة في شرق وجنوب كوردستان لدى كل من لهجتي السوران والهاورامان حيث تنشتر فيهما مقامات مثل (هوره، قتار، خاوكه ر، خورشيدى، تايه رى، سه فه ر ، لاوك، لاوزه ، حه يران، ...الخ.). وفي منطقة سوران يعد علي مردان واحد من أبرز المغنين في اداء المقام الكوردي الأصيل.  
أعتقد أن هذه الموسيقى التي يمكن أن نسميها اليوم بموسيقى الملاحم الكوردية الفولكلورية هي روح بلا جسد، أي أنها تحتاج إلى الجسد الألي وفق التوزيع البولوفوني أو (التعدد الصوتي) polyphony وقواعد الهارمونيا harmony الشرقية ذات الاتجاه الأفقي. هذه الانغام هي مقامات موسيقية تتميز بخصوصيتها الكوردية والتي تقترب في بعض الاوجه من الموسيقى الكنسية الدينية church melodies of the Armenians التي نلمسها عند الموسيقار الارمني (كوميداس) وخاصةً في طريقة انشاده للتراتيل الكنسية في نهاية القرن التاسع عشر. وأتفق مع العلماء الذين يعتقدون أن الانغام والمقامات الكوردية التراثية ليست وليدة القرن التاسع عشر أو الثالث عشر أو حتى بدايات العهد الاسلامي، بل أنها ربما تعود إلى فترة موغلة في القدم مثل فترة العهد الساساني أو الميدي أي ما قبل الاسلام.  
لو حاولنا القيام ببحث منهجي في هوية الموسيقى الألية الكوردية من أجل دراسة خصائصها الموسيقية ومميزاتها الفنية، من الصعب العثور على أعمال موسيقية يليق بمستوى التطور الحديث في علوم الموسيقا وتقدم التكنولوجيا الألية الموسيقية، حتى أنها لا تليق بمستوى جمالية الانغام الموسيقية (التراثية). وثمة فرق كبير بين المستوى الفني للموسيقى الكردية من جانب، وموسيقى الشعوب المجاورة، وذلك يعود لأسباب معروفة ترتبط بخصوصية القضية الكوردية، ومدى تمتع الكورد بحقوقهم الثقافية في اطار الدول والحكومات التي لا تعترف بالهوية الثقافية للقومية الكوردية. ورغم كل العوائق التي تشل من مسيرة الكورد الثقافية والفنية، ثمة بعض الأعمال الموسيقية التي تتسم بالقالب المونوموسيقى monomusic أو العزف المنفرد حيث غالباً ما تكون ألة موسيقية واحدة وهي التنبور أو البزق، أو البلور، أو الزرنا والطبل، وهذ الأعمال هي:
1. المعزوفات والسماعيات المنفردة تؤديها الة البزق للفنان سعيد يوسف، وهي تسجيل يتضمن بعض المعزوفات والمقامات الموسيقية الغنائية تجسد أنغام شعبية تراثية مثل (سيامند وخجى) ومعزوفة (كفوكى) و(كريسيرا).
2. هنالك بعض المعزوفات الموسيقية الارتجالية على الة البزق يعزفها الموسيقار الكردي شيرزاد عمر، التي تحذو حذو عزف امير البزق محمد عبدالكريم وقريبة جداً من اسلوب وتقنيات هذا الأخير.
هذه المعزوفات الموسيقية رغم جماليتها النغمية واختيارها الناجح إلا أنها بحاجة إلى فرقة موسيقية الية تناسب جمالية النغمة من جانب، وتستوفي العناصر الفنية المتطورة بالتآلف مع خصوصية روح الأنغام الكردية في الأداء والشكل والتقنية والاسلوب من جانب أخر.  
3. واحياناً نسمع بعض المقاطع الموسيقية تذيعها الفضائية السورية دون ذكر هوية الانتماء الموسيقي، وخاصة المقطوعة الكوردية التراثية (الكلاسيكية) التي تبث في خاتمة حلقات المسلسل ((ضيعة ضائعة)) من تأليف الموسيقار الكوردي السوري طاهر مامللي هي الأخرى تتميز بمستوى فني عال. أما الموسيقى الكوردية في الشتات الاوربي تحتاج إلى دراسة مستقلة لسنا في مجال البث فيها حالياً.
4. أما الموسيقا الألية التي وضعها ونفذها الموسيقار الكوردي المغترب غني ميرزو، لعلها تحتل المكانة المتميزة في تاريخ الموسيقى الكوردية بالنسبة لأكراد سوريا تحديداً، إلا أن هذه الموسيقى في بعض من جوانبها يغلب عليها طابع التعدد الاثني المتأثر بالفكر العولمي الجديد في بيئة الاتصالات السريعة وانتشار أفكار الحداثة ومابعد الحداثة مما يجعل  الموسيقى أن تستمد تكويناتها الجديدة من خلال الدمج بين مقاطع وجمل تنتمي إلى اثنيات مختلفة: كوردي وعربي وهندي وتركي واسباني وقوالب قريبة من ايقاعات الفلمنكو كلها من خلال اصوات الجوقة الموسيقية تأخذ أدوار حوارية تتآلف في اطار التوافق الهارموني مما يشكل انسجاماً موسيقياً جديداً يظهر في عصر العولمة.    
بالرغم مما ذكرناه إلا أن هذا الوجود الموسيقي الكوردي المشتت لا يأخذ طريقه في التنظيم والتجميع والتمركز في مكان معين ولم يأخذ شكله الصولفيجي المدون ولا الصيغة الصوتية الألية على ديسكات وأقراص كومبيوترية تستخدم كوسيلة للتخزين من جانب، وهي وسيلة من السهل توفيرها، وتلقيها وفق برامج صوتية تتيح لنا فرصة الاستماع إلى  مجمل الأعمال الموسيقية من نوع الأوديو والفيديو. من هنا نجد أن الموسيقى الكردية في سوريا لا تحظى بتلك المكانة اللائقة بها، وغير قادرة على مواكبة العصر لسببين رئيسيين:
أولهما العامل الموضوعي ويتعلق بالقضية الكوردية إذ لا يتمتع الكورد بحقوقهم الثقافية، وبالتالي نصطدم بوجود حظر حكومي رسمي يحول دون تطوير الثقافة الكوردية ككل، مع وجود هامش غير رسمي من الحرية يتمدد أحياناً ويتقلص في أحيان أخرى حسب الظروف السياسية لكل فترة.
أما السبب الثاني وهو الضعف والنقص الواضحان في العامل الذاتي الذي يتمثل بغياب الكادر الموسيقي الناضج، وبالتالي لا وجود لفرقة موسيقية كوردية قادرة على القيام بهذه المهمة، ولا من يدعمها ويساندها لتقف على قدميها وتستمر في تأدية وظيفتها الفنية على أكمل وجه.
من هنا أرى أن الموسيقى الكوردية، ليس في سوريا فقط بل في العراق وايران وتركيا أيضاً، بحاجة ماسة إلى توفير جانبين اساسيين هما: الجانب المادي أو الدعم المالي، والكوادر الموسيقية يتمثل بمجموعة من العازفين يقودهم مايسترو موسيقي قادر على التوزيع الألي المتطور والابداعي وفق دراسة تقوم على أساس من علم البولوفوني وعلم الهارموني. فالمايسترو لا بد أن يكون ملماً بالايحاءات والمؤثرات الصوتية التي توحيها كل الة موسيقية، مثلاً ماهية الوظائف الصوتية لكل من (البلور) الكوردي و(التوتوك) الارمني، أو صوت (التنبور) وصوت (التار) الفارسي، صوت (التنبور) كآلة وترية وصوت (الكلارينت) كآلة نفخية، وامكانيات ألة (الاورغ) الحديث بأصواتها المتعددة وايقاعاتها المختلفة. فدراسة التعرف الجيد للمؤثرات الصوتية لكل ألة على انفراد من جانب، والمجموعة الألية من جانب أخر تتيح للمايسترو أن يقوم بالتوزيع الصوتي المتعدد على اساس التوافقات الهارمونية، تماماً مثلما يؤديه الفنان أو الرسام التشكيلي بادراكه للقيم اللونية والمؤثرات الدلالية والايحاءات التي تعكسها كل لون. ويمكن دراسة هذه الحالة في مجال المقامات الموسيقية، فمثلاً مقام (السبا) توحي الى معاني الحزن في الموسيقى كما هو واضح في أغنية باللهجة السورانية وهي (غريب غريب) للمغني فؤاد أحمد وتعود الى فترة السبعينات للقرن الماضي، وهكذا بالنسبة لمقام الحجاز والبيات والراست والكورد ...الخ التي تحمل معاني ذات قيم دلالية مختلفة من حيث الاحساس. أما اذا انتقلنا الى المؤثرات الصوتية فيما يكون قيم الحركة في احداث الايقاعات البطيئة والسريعة تدخل في تشكل حركة موسيقية تحرك الجسد في لوحة جميلة وساحرة كما هو صارخ في مشهد المغنية العالمية الراقصة (شاكيرا).
هذه الامكانية ذات الطاقة الألية والطاقة البشرية الابداعية تشكل فرقة موسيقية من الممكن أن تنتج أعمالاً موسيقية جميلة وساحرة  تنبثق من وحي الأنغام والمقامات الكوردية التراثية التي تعد المنبع الصافي والنقي للألحان والمقامات الكوردية الأصيلة والتي تتميز عن موسيقى الشعوب الأخرى، والتي تعد السمة البارزة والتمييزية في تكوين الأمة الكوردية، والتعبير عن خصوصيتها القومية كأمة تتميز بموسيقاها عن الأمم الأخرى.

2009-08-30       







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=2553