رقمٌ في القطيع
التاريخ: السبت 08 اب 2009
الموضوع: القسم الثقافي



صبري رسول

        متعباً نزلتُ من القافلة، بعد سفرٍ طويل، أنْسَاني العناوينَ والوجوهَ، متسربلاً بالإرهاق.كانت بقايا الليل تلفظُ أنفاسها الأخيرة أمام فجرِ الصَّحراء المسطح. أنوار المدينة بدَت شاحبةً يشوبها التّعب وضجيج المسافرين.
        كلٌّ يلتقط أمتعته ويختفي خلال لحظات، وفق مساره المرسوم له،كأنّه تأخّر عن يوم الحساب، اختفى المسافرونَ كلّهم، وجدتُني وحيداً في صالةٍ واسعة يعلو صدرَها ثلاثةُ إعلاناتٍ: الحجز الدّاخليّ، الحجز الدَّولي، التَّرحيل.
        العناوينُ الثَّلاثةُ توزّعُ الوجوهَ على بلدانٍٍ، حسبَ أهواءِ الخرائِط. على كتفها الأيمن مكتبُ الاستعلامات, يتوسّطُه رجلٌ ذو لحيّة كثَّة تدلُّ ملامحُه على أنّه من بقايا الألفية الأولى، حيثُ تختلطُ خريطةُ الصّحراء مع تقاسيم وجهه.


        رجلٌ لا يشبه ما تحلم به فتياتُ بلداننا. جرَّني الفضول إليه بخطواتٍ ثقيلة، لكنه اختفى هو الآخر، وكأنّ فوضى أوراقه ولحيته قد ابتلعتاه.
        لفظني بابُ الصَّالة إلى الشَّارع، يااللّه! مدينةٌ كأحلام أفلاطون شكلاً، أبنية شاهقة وأنيقة، كصور بطاقات المعايدة، شوارعها فسيحة و ممطوطة، السيارات اللامعة والفارهة تتسابق في أرتال طويلة كموكبٍ شعبي ما كنا نراها إلا في المناسبات الوطنية والأعراس، وحدي أترجل بين فحيحها، يائساً حاولت إيقاف سيارةٍ تقلني إلى حيث أتّجه، ولم أعرف ما الذي يجعلهم يتجاهلونني باتّفاقٍ غير معلن، مرَّت ساعات طويلة وأنا أجوب شوارع المدينة دون أن ألتقي بمارٍ أسأله عمّا أريد، فأطلقت العنان لصرخةٍ مكتومةٍ امتدّت على اتساع الشارع، كلَّما دخلْتُ محلاً تجارياً يهرب أصحابه مني، أو يختبئون بين الرّفوف المكتظّة بالأشياء، ورسمتني الدهشةُ سلعةً فوق رفٍّ تعلوه ذاكرةٌ هشّة، ذاكرة تترصد المختبئين هناك .
        وجدتُني في مواجهة الشارع ثانيةً، فبلغَ دَهَشي ذروته عند اكتشافي بأنّ هذا القطعان من السيارات تزحف دون أن يقودها أحد، عندئذٍ أدركت سبب عدم وقوف إحداها لتقلّني إلى الكلمات المدوّنة في ورقةٍ أتلفَتْ رجليّ، أمعنتُ النظر في سيارة جامحةً لأكذّبَ ذهولي، وإذْ وراء مقودها شبحٌ يكاد أن يشبه هيكل إنسان، ولهيكلية التّطور البشري بداياتها الأولى، وللغياب الإنساني فيه وجهٌ متعمدٌ، وكلّما دققتُ في تحديد الملامح وجدتُ أنّ رأسه مدورٌ، طبعت شمس القرون الماضية صفعةً في أحد جانبيه، وتوسطت منتصف الدائرة خطٌّ عريضٌ يعلوه بعض الشعر، وأسفل الخطّ كتلة شعرٍ مبعثرة تلامسُ المقود في نهايتها مخلوقٌ لم أسمع به من قبل، ولم أقرأ عنه في كتب العلوم، يا لضحالة مناهجنا، فالمؤلفون لم يكونوا على دراية بكائنات البيئات الأخرى، وما أراه قد يكون كائناً هجيناً من التزاوج بين البش والطبيعة، والعلاقة بين الإنسان والبيئة تسيّرها إرادة لا تخضع لرغباتٍ غير مروّضة.
        انطبعت دهشة بحجم صرخة خائفة في عينيّ عندما رأيت أحدهم يتثاءَب، فإذْ بفم تمساحٍ نيليٍّ يرتسم أمامي كاد أن يبتلع السيارة كلّها، ثمّ أطبق نصفا الدائرة فتكوّم الشّبح وراء المقود كقردٍ عجوزٍ تناستْه أدغال الأمازون العذراء، ولم تلقنه سوى القراءة الأولى في عالم الغابات.
        علا صوتِ الأذان قوياً وشفافاً ، لكن بلحنٍ مختلفٍ عمّا تعودتُ عليه منذ صغري، فالأداء الانسيابيّ للأذان حفر لونه الرشيق الخاص في جدول الاستيعاب الصوتي في ثنايا طفولتي.
        مرَّ رجلٌ يشبه من يقود السيارات تتدلى من وجهه لحية مغبرّة منذ أيام العثمانيين، تركها الإهمال المقدّس مغبرّة داعياً الناس إلى الصلاة، فحمدت الله لأنني في بلاد الإسلام، فسادَت حركة نشطة في الشارع. عشرات النّسخ المكرّرة من تلك الكائنات تسرع نحو جماعات تقدّسُ الأزلية . ولا يمكن التمييز بينهم إلا باللّكنة الكلامية اللفظية المتشرّبة إلى ألسنتهم منذ رضاعتهم العفوية، واجتاحني إلى حيث ... لتؤكد انتمائي إلى القطيع.
        فبتّ رقماً حسابياً في قوامه، ولم أعُد أميّز نفسي من الآخرين، تحسستُ رأسي ووجهي، هل أصبحتُ مثلهم؟ هل تجمعني معهم وحدة الحال؟! شيء يشبه الكرة يتحرك بين كتفيّ دون أنْ يسقطَ بفعل الجاذبية، ويشطره إلى نصفين خطٌّ عريض، فعدوى التّكوين الشّكلي قد أصابني في الصّميم.
تبعتهم في السير، والتبعية فعلٌ مُقتَدَرٌ يُلغي الإرادة والرّغبة الخامدة في الداخل المنسي، بل جرفَني سيلُ المارّة، فأنا حصاةٌ ملساء يأخذها السّيل المتعجرفُ كما يشاء.
        تزاحمت الأسئلة في صدري، وأسرتْني الحيرةُ، ولم أجدْ فكاكاً من السّير مع التيار، فيموّهني السّير دون أنْ أكسر قوانين التّمويه والسّير.
        نصبتُ سؤالاً في وجه (الباب العالي) لعلّني أجدُ من ينتشلني من حالتي، تبعثرَ النّاس خلال لحظاتٍ، ولم يعرْ أحدٌ اهتماماً للسّؤال المطروح، المجروح، فلم يعد للسؤال أهمية إذا كانت الأجوبة غير راغبة بالظهور. أين ذهبوا؟ وكيف اختفوا؟ لا أعرف، فلم يعد لهم أيّ أثر، والذين وقفتُ في صفّهم أثناء تأدية (التراتيل المقدّسة) لم أتمكّن من تحديد ملامحهم، ولم أعرف الطقوس الحركية لديهم، هل كانوا يصلّون أم يغنّون في سرّهم؟ حيث للصّلاة والغناء حدٌّ مشترك في إطفاء الظمأ الروحي، فها أنا ذا أخوض معركة البحث عن الذَّات وهي معركة طويلة مع الآخرين، وللذّات ماهية مجهولة إلى أنْ تثبتَ بلونٍ آخر. وما عرفتُ سبيل الخروج منها .
        اكتشفتُ فيما بعد أنَّ أبنية المدينة لا تشبه أبنية مدينتي، لا في هندسة التّركيب، ولا في العلو العبثي، ومن حكمة القدر أن يقوّض الارتفاع الشّرس للأبنية اتّساع العين في نظرها اللاهث لاكتشافِ المدى العاري.
        بريقُ البناء يشدُّ المرءَ إليه من بعيد، فكلّما دنوتُ منه وجدتُه كوخاً أصمَّ، شُيِّدَ خصيصاً لسكن الأشباح، لا وجود للمنافذ والمداخل. وينافس الارتفاعُ مداراتٍ بعيدةً عن النّظر، تلبّي احتياج الفراغ العشوائي إلى عبثية الارتقاء. لا يستطيع النَّاظر إليه أنْ يتخيّل كائناته، وما فارقني الإحساسُ بأنّني جزءٌ من الارتفاع؛ فأنا فراغٌ غير نهائيٍّ من فضاء المدينةِ، واعتراني شعورٌ قويٌّ، في تحدٍّ مطلقٍ لبريقٍ يختزلُ شهوةَ الصحراء، شعورٌ يُغريني إلى القطيعةِ المطلقةِ مع الزّمن.
        كم مرَّ من أيامٍ وشهورٍ وأنا أسير مع هذا السَّيلِ العارم من البشر أو الأشباح! لا شيء يُعيدُ إليّ إحساسي بوجودي ككائنٍ عاقل، لا شيء يجعلني أشعر بوجودي إلا الجوعُ المتوارث من أبناء الشّرق المحاربين، أمّا بحثي الطَّويل عن الرّقم الذي أمثّله في القطيع علّمني صبرَ الباحثين عن عشبِ أنكيدوا المفقود. فرقمي مكتوبٌ في رقيمات الخلودِ الضّائع، لا في بلاد النّفط.
الطّائف  في 3/7/1999م 






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=2511