حواريات حيدرو و إسماعيلي دين .. ليلة احتراق سينما عامودا
التاريخ: الأثنين 27 تشرين الاول 2008
الموضوع: القسم الثقافي



  وليد حاج عبدالقادر

- حيدرو !! الزم حدك ؟ ! .. اياك و تجاوز هذا الجسر ؟ .. إنها لي .. لا .. ليست لك .. لي .. ليست لك ؟ ..و التمعت الخناجر ملوحة في الأفق .. تناطح الاثنان على طريقتهما .. صراع -دونكيشوتي - مضحك / مرهق في سيرك أشبه ما تكون بصراع الديكة .. و من دون سابق انذار أنهى حيدرو المبارزة قائلاً : اسماعيلو .. أتشم شيئاً , ما هذا بربك ؟؟ !! .. أنت مجنون فعلاً حيدرو !! .. قالها اسماعيل .. إنها رائحة لحم مشوي .. نار و دخان ..


 حركة غير اعتيادية دبت في شوارع و أزقة عامودا .. صرخات و أصوات هيستيرية .. إنها السينما .. إنها السينما .. هيا يا عالم .. يا ناس .. إلى الأطفال .. إنها السينما تحترق و ملؤها أطفالنا الأبرياء .. تناسى اسماعيلي دين و حيدرو خلافهما على الحدود المصطنعة .. إلى السينما هيا قالها اسماعيلي دين .. رباه !! ..

طوق من رجال الأمن و الشرطة أحاطت بالمكان تمنع وصول المذعورين على أطفالهم !! .. حيدرو .. حيدرو .. لماذا يمنعون الناس من محاولة إنقاذ المحاصرين بالداخل ؟؟ !! .. لا أدري أجاب حيدرو .. هات خنجرك .. هات .. تتمرجل فقط عليّ قالها اسماعيلي دين .. و أين خنجرك سأله حيدرو .. أيها المجنون : أقسمت ألا يجرح خنجري إنساناً , فقط أعيره بعض الأحيان إلى حجي يحيى ليذبح به الدواجن ..

 أصوات استغاثات .. عويل فظيع تتقطع لها الأبدان .. أزيز .. صفير .. صعيق .. جقجقة المحترق المتصدع تتعالى .. تمازجت الأصوات و الروائح و الألوان .. المشاعر باتت منفلتة فلتان هذا النار الفتاك !! .. و فوق كل هذا ..رائحة اللحم الطفولي و هو يحترق .. و رجال الشرطة تمنع الناس حتى من مجرد التفكير في انقاذ المحاصرين !! ..

تململ الجمع المحتشد و .. فسحوا الطريق .. بدا أن أمراً ما حدث .. أو سيحدث .. لحظة .. كان الكبرياء البشري قد فقد ذاته وسط ذاك الطوق الأمني غير المبرر .. انتبه الأمن إلى هذه الحركة .. تقدمت مجموعة منهم .. حاولت منع القادم من التوجه صوب السينما المتقدة .. أشهر مسدسه و أقسم بقبر أبيه بأن الذي سيمنعه , سيلقى حتفه .. تراجع الجميع فهم يعرفون من هو – محمد سعيد آغا الدقوري .

دخل السينما .. أنها تلتهب .. طفولة بريئة تاهت وسط هيجان نار لا يرحم .. و .. دخان يعمي البصر , انتشل طفلاً بيمناه و آخر بيسراه و انطلق مسرعاً .. ذهاباً و إياباً .. ذهاباً و إياباً .. النيران تشتد اتقاداً و هو يزداد اصراراً .. الردهة الأولى خلت .. توجه صوب الردهة الثانية .. رائحة الشواء الآدمي تزكم الأنف .. و النيران هشمت الأسقف التي تداعت و قاربت من الانهيار .. أصر على الاستمرار .. سكة حديد ملعونة أضحت ككتلة جمر متقدة تتدلى .. لعنة الله على سكك الحديد .. قالها الدقوري .. لقد فعلت فعلها سابقاً .. ألم تقسمي أرضي إلى قسمين و قريتي إلى قريتين !! .. تناول طفلين آخرين و صغيرة بضفائر جميلة تحك عينيها بيديها , ما لبثت أن تمسكت برقبته .. هرع بهم خارجاً .. الوهج يزداد و الدخان يقطع النفس .. و العيون مظلمة .. صمم على التحدي .. اجتاز الباب , ما اسمك أيتها الصغيرة ؟ نسرين أجابت الطفلة .. إلى بيتك أيتها الحلوة نسرين ..

عاد مسرعاً نحو الداخل .. أحس بارهاق شديد . تعب لم يألفه بعد .. انعدام رؤية .. غثيان .. سائل يتدفق من قمة رأسه لا يميزه .. أدم هو أم عرق ؟؟ .. بصعوبة فائقة وصل الردهةالثانية مجدداً .. انتزع طفلين آخرين و همّ بالخروج .. إلا أن سكة الحديد المتجمرة أبت ألا أن تتدلى أكثر .. النار توهج .. تعالت ألسنته و امتزجت بدخان أسود كثيف و أضحت كدوامات ( بابلسيسك ) ممتزجة بدخان أسود كثيف تتشابك كحلقات حلزونية قاتلة .. ما أبشعك أيتها النيران .. ازحفي .. هلمي إلى .. دعي الطفولة لبراءتها ؟؟ ..

اصطدم رأسه بالسكة المتدلية بقوة .. لا بأس .. لا بأس .. رمى الطفلين صوب الباب .. هيا انجوا بنفسيكما . ها هو الباب على بعد أمتار .. حاول الرجوع مجدداً .. لم يطاوعه قلبه .. انتزع الطفلين من جديد .. أوصلهما بر الأمان , رجع مسرعاً .. رغم شدة النار و قوتها .. الرؤيا شبه مفقودة .. الأفكار تتواتر إلى ذهنه بسرعة البرق .. عجباً .. لم لا أرى شيئاً .. لا أميز أية صورة .. سوى صرخات البراءة و استغاثتها .. يالبؤسك أيتها الحكومة !! .. صامتة أنت و البراءة تحترق هنا .. رجالك يحرسون النار و يمنعون المساعدة !! .. أم لعلها ل( تكتمل الوليمة ) .. ربما .. قالها في نفسه .. مدّ يده لينقذ طفلاً آخر .. الله .. الله .. يد طفولية بدت كغصن شجرة محروقة و قد انتزعت من جزعها .. هل فزعت أيها الدقوري ؟؟ !! ..  لا لا .. و لكن !! أي قلب آدمي يستطيع تحمل هكذا مشهد .. ياللحظة البائسة في عمر البشرية .. هلمي .. تعالي .. جميلة بو حيرد  .. بن بيلا .. حسن آية .. و أنت بومدين .. أيها الجزائريون انظروا ها هي البراءة الكردية تحترق .. نعم .. لقد قدموا الليلة فرحين ؟؟ !! .. على أمل أن يشهدوا عرساً جزائرياً حقيقياً .. آه منك فرنسة الاستعمارية .. لقد اختبرناك قبلهم و اختبرتينا .. في / شواطا عامودي / لم نحزن هكذا .. كنا رجال ندّون لرجال .. مع هذا اعوانك بالأمس هم السادة !! .. و نحن وقود نار اشتعلت لتوها !! ..

في لحظة تداخلت فيها كل مشاعر الغضب .. النار يزداد هيجاناً .. تعددت ألوانه و حلقاته و أضحت كلوحة ل( فؤاد كمو- أحد الناجين من المحرقة ) و قد تداخلت ألوانها بسريالية حزينة .. سوادها بصفارها , برتقالها باحمرارها ..

اسرع الدقوري علّه ينقذ آخرين و في انحناءته الأخيرة .. اختلطت عليه الاتجاهات .. تاه منه النظر .. تواً بدأ يتحسس رائحة الدخان الحاد , القاتل .. و .. رائحة اللحم البشري المحترق , لمح بصيصاً يقوده إلى النجاة بنفسه .. ألا بئس الرجل أنت - محمد سعيد آغا الدقوري - و تفكر بخلاصك الشخصي .. لا و الله !! لن أخرجن و طفل واحد حي هنا ؟؟ !! .. و كبوصلة أخذ اتجاه الأصوات المرعوبة .. المتألمة .. المستغيثة .. صدم رأسه بعنف .. أحس و كأن أحدهم و قد ضربه بقوة على رأسه " أيتجرأ أحد أن يتطاول عليّ " .. أبى الانحناء .. قاوم السقوط .. صوت انهيار قوي متتال .. ما هذه اللسعة الحارة !! .. أبرق ضرب المكان ؟ .. لا بل .. لعله الطيران الفرنسي و قد عاود القصف مجدداً .. امتزج السائل المنهمر من جسده مع الدم و الجلد المحترق .. الله ! ..

أحس أنه سينهار .. مدّ قدمه اليمنى نحو الداخل .. (هلم ) خاطب نفسه .. لعلي أنقذ اثنين آخرين .. إلا .. أنها .. السكة المشؤومة .. يبدو أنها أصرت أن تحطم رأساً تصدى بأنفة , و أبى الانحناء .. فانهارت مع توابعها , لتغطي الجسد .. الله .. ما هذا .. أزلزال هدّ ما حولنا ؟؟ !! .. اختلط الجسد مع الحديد المذاب و الرماد الأسود المتشحم !! ....

حيدرو !! .. هل أحصيت الأطفال الذين أنقذهم الدقوري ؟ !! .. نعم .. نعم .. اسماعيلو .. لقد أحصيتهم .. عشر مرات ستة و أربع مرات أربعة و ثلاثة .. قاطعه اسماعيلو .. و كيف ذلك حيدرو .. و الله أنك لمجنون .. أنا مجنون ؟؟ .. نعم .. لا و الله أنت .. لا أنت .. و بدأت المبارزة من جديد ..

إمرأة تولول و تصرخ !! أولادي .. أطفالي .. و آخر يروح و يجيء .. لي ثلاثة أطفال في الداخل .. اللهم الرأفة .. الرأفة ربي .. و آخر يتكلم بهيستيريا مبهمة .. و حيدرو و اسماعيلي دين يتباطحان .. حقاً أنكما لمجنونين .. ألا يكفي الناس ما هم عليه !! .. آه جوزي .. جوزي .. لقد نسيت الجوز مفروشة على الرصيف !! هيا حيدرو .. هيا .. قبل أن يتلقفها أطفال عامودا الشياطين !! .. و هل بقيت في عامودا طفولة اسماعيلو !! ؟؟ .. نعم .. نعم .. لقد أفرغت عامودا من زهورها .. ورودها .. فاكهتها .. أية حياة بدونك أيتها الطفولة لا معنى لها .. أردف اسماعيلي دين .. و كم طفل في السينما قضى برأيك اسماعيلو ؟ .. دينو ! .. سيقولون احترق ثلاثة أطفال و ما أن تسمع بهكذا خبر عليك أن تشم رائحة مجزرة قد حدثت للكرد .. قالوا الجزائر .. قالوا .. و ماذا ستفيدنا أو أفادتنا الجزائر .. آه لو سمع الأطفال كلامي و اشتروا بفرنكاتهم الجوز مني لكان الجوز قد نفذ و ربما ما حدث اليوم هذا الحدث .. أوف أيها المجنون التافه حيدرو .. دائماً تلهيني بكلام لا معنى له , فانسى الجوز المرمي على الرصيف هكذا من دون صاحب ؟؟!! .. 

ملاحظة: عبارة (تكتمل الوليمة) مقتبسة من قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل "محمود درويش"







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1972