القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: هوية !

 
السبت 12 ايلول 2015


محمد باقي محمد
    
     أطلق القطار صفارته الأخيرة إيذانا بالانطلاق ، لتمتص ّالفضاءات الوسيعة الظمأى عويله المترع برعشات الوداع ، ثمّ تململ متحركاً ببطء ، فأغلق جوان عينيه ، وانسحب نحو الأغوار السحيقة للنفس متمترسا بجدرانها الكتيمة ، على أمل الهرب من التفاصيل المحكومة بلوعة الغياب ، فيما انسربت أفكاره خلف الأيام الهاربة ، والأحلام الموؤدة بالقلق واللا يُسمّى من الأحاسيس ، وكان أن انكمش على نفسه شرنقة وحيدة متروكة ليد الإهمال !
    فجأة علا صوت قرع على الباب ، فانتزعه من لجّة صمته العميق ، وتراجعت الهواجس التي كانت تتزاحم في رأسه - كخلية نحل - إلى حين ، وانطلق صوت محايد :
-  التذاكر ياشباب ..


    فاستفاق من الرجعى ، ومع تآكل خيوط الشرنقة ، ارتفعت عيناه المزروعتان بأشجان تراكمت في القاع كما ظلمة كثيفة ، وثوت هناك ، وإذ شرع صوت القطار يتوحّد بوجيب القلب ، امتدت يده المرتعشة الى جيبه ، ثمّ انسلّت تجرّ بين السبّابة والإبهام ورقة حمراء مهترئة الأطراف .. 
    " الاسم والشهرة : جوان محمد ، اسم الأب : أحمد ، اسم الأم خنسي ... " وعلى الزاوية العليا من بيان القيد المدني انزوت صورة قديمة ممهورة كتب تحتها "خاص بالأجانب " !
   " المادة الخامسة عشرة :
لكلّ فرد حقّ التمتّع بجنسيّة ما ولا يجوز حرمان شخص من جنسيّته تعسّفا ،  أو إنكار حقه في تغييرها ..
         الميثاق العالمي لحقوق الانسان " 
      تأمّل الشرطيّ الورقة بحيرة ، وقال : 
-         سأريها لرئيس الدورية ليبتّ بصلاحيتها ..
     وتقلقل القطار متحركاً كمريض مصدور أو مدخّن مُدمن ، بينما أنشأ إحساس حاد بالانكسار يتموّر في الأحشاء كحرف نسلة ، ليرض ّالنفس المكروبة ، وينشر الألم في الخلايا.. 
    " الى أين أيّها الكرديّ المتعب ، الطالع - بحسب الآخرين - من باطن الأرض كفطر سام ، الهابط من مجرّة أخرى - ربّما - كيما يصابوا بالدهشة أو الامتعاض من وجودك المقلق " !؟ 
    " مقام اللجنة المركزية للاحصاء  : مقدّمه جوان محمد ابن أحمد ، من أهالي قرية القرمانية  ، التابعة لناحية الدرباسية .... علما بأنّ والدي كان يقيم في هــــــذه القرية ، كما كان جدّي - من   قبــل - مقيما  فيها ، وتوجد في  حوزتنــا سندات تمليك تعود إلى أيام العثمانييـن... لكلّ ما تقدّم أرفع إلى مقامكم طلبــــي هذا ..  راجيا إعادة النظر في وضعـي  ، وإدراج اسمي في لوائح المواطنيـن  ، أسوة بغيري منهم..
ولكم الأمر سيّدي .. 
المستدعي / الطابع والتوقيع " 
   " غريب أنت ، والمحطّات موصدة في وجهك أو مرصودة ، فكيف تتدبّر المبلغ المطلوب ؛ حتّى يدرج اسمك في خانة المواطنة ، وأنت العاطل أبدا ، المتبطل بالإكراه ؟! ليس ثمّة دراهم ، إذاً ليس ثمّة مواطنة ! معادلة عجيبة ! إذ هل للمواطنة أن تُعامل كاللبن أو العصفر أو الصابون أو السكّر ! ولكن أنت لست نيزكاً هوى من سموات قصيّة ، ولا كائناً مجهولاً لفظه كوكب بعيد نحو هذه البسيطة ! أليس كذلك !؟ ثمّ أنّ الحجارة لاتلد بني آدم ، فلماذا يوهمونك -  مع كلّ خطوة - بأنّك غصن اجتثّ عن أصله !؟  ..
" الى المستدعي جوان محمد : لإبراز مايثبت بأنّك غير محكوم ، وبيان قيد من السجل المدني ، مُـــدوّن فيه عبارة عربي ســـوري منذ أكثر من خمس ..
مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل
الختم والتوقيع  "
   ومن اجتثّ من جذوره ؛ لن يتسنّى له أن يبرز ما يثبت بأنّه  غير محكوم ، لأنّه - أساساً - لا يحمل  بيان قيد ، يمنحه شرف الانتماء إلى بلد جُبل ترابه بعرقه ودمه ودموعه ، بلد منحه خبزه وزيتونه ونبض الأرض ، فلم يبق له إلاّ الغربة المدماة بالحنين ، ولو أنّ هذا الاجتثاث جاءك من الآخرين إذاً لعذرتهم ، ذلك لأنّهم لا يعرفونك جيداً ! الملغز في المسألة أنّه جاءك من الأشقاء العرب ؛ الذين اقتسمتَ معهم الرغيف وعشب البرية وضريبة الدم ! والأكثر إمعانا في الالتباس أنّ ما وُسم بمروحة اليسار في البلد لم يضعكَ في مغازيه ، ولا كانت معضلتكَ - يوماً - على سلّم أولوياته ! ألهذا غادرت صفوفه باكراً ، لتحافظ على ما تبقّى من تصالحك مع ذاتك ، ثمّ لم ترجع إلى خانة العمل السياسيّ - بعدها - أبداً !؟ هناك - في الغرب - في ما يسمّى بالعالم المتحضر حتى الكلاب لها أرومة ينسبونها إليها ، لها أصل وفصل ، بل ويمنحونها هويّة أيضاً ، بينما تنكرك السجلات في بلدك ككائن أجرب ، فلا تساويك بماشية رعاتها التي تدوّنها كشرط لحيازة المراعي ! وتظلّ الأسئلة المحيّرة فأسا معلّقة فوق الرأس ؛ أن لماذا تعمد الحكومة إلى تغيير أسماء القرى الكردية !؟ لماذا وضعت يدها الثقيلة على الشريط الحدودي ، ووهبت كثيره للفلاحين العرب الذين استقدمتهم من محافظة الرقة ، غبّ أن غمرت مياه الفرات أراضيهم !؟ لماذا تعمد أجهزتها إلى فصل الطلبة الأكراد من المدارس والمعاهد ، وهم في مقتبل الدرب ما يزالون بداعي أنّهم يشكّلون خطراً على أمن البلد !؟ ولكن أيمكن لشباب غضّ العود والتجربة أن يكون خطراً على أمن بلده !؟ وأيّ نوع من الخطر !؟ أليس هذا غريباً ، وغير مفهوم على نحو ما !؟ هم فتيان يافعون ما يزالون ! حسناً ، أين يذهبون بأنفسهم ، وأيّ مستقبل مُبهم ينتظرهم في غد قريب !؟ ولكن أنا لا أفهم لماذا .. لماذا حينما يُنادى محمد بـ : " ممّ " ينبض الغضب في شرايين البعض ، حتى لكأنّ ما يعطيه اللّه للإنسان يحق لأخيه الإنسان أن يحرمه منه !؟ ألم يقل الله عزّ وجلّ " وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .... " !؟ هو كان بإمكانه أن يخلق الناس في شعب واحد إذاً ، ثمّ ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام " اختلاف أمّتي رحمة " !؟ فلماذا عدّها الكثيرون نقمة ، وسلكوا سبلاً تفتقر إلى الخلق القويم !؟  أهذا كلّه لأنّك ولدت كردياً ! ولكن هل تضع الفرس إلاّ فرساً !؟ فإذا تململتَ ، أو بدا عليك ما يشي بالتذمّر ؛ لاحقتك التهم الجاهزة ، يلصقونها بك كيفما شاؤوا ، فيداخلك الإحساس بأنّك وحيد وأعزل في مواجهة أجهزتهم وشرطتهم ومخبريهم السريّين ! ألهذا أدمنتَ الصمت ، أم أنّك التجأت إلى عبّه لتتجنّب الكلفة الباهظة للكلام ؛ تاركاً نفسك لخراب الدورة الدمويّة ، وتحوّل الأشياء ، وهي تمسخ إلى كمّ بيولوجيّ رثّ ومهمل !؟ 
" المادة الخامسة :
لا يعرّض أيّ إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو القاسية أو الوحشيّة أو الحاطّة بالكرامة ..
  الميثاق العالمي لحقوق الإنسان "
  قد يكون استيلاد هراوات من الأشجار ، أو حفر أنفاق في الجبال ، أو تغيير مجاري الأنهار ، أو - حتى - تجفيف الينابيع في حدود الإمكان ، لكنّ الكردي - والى ما لا نهاية - سيظلّ كردياً ! هذا من طبيعة الأشياء ، فما وجه الغرابة فيه ، حتى يُستهجن أو يُحارب !؟ " 
    خطفاً كانت المشاهد تتوالى ، وفي الحدقتين - اللتين كانتا تريان ولا تريان - انعكس الخرّوب والصرّ متناثراً على المفارق ، مغيّباً التربة الصفراء الباهتة . كان القطار قد تجاوز مدينة الحسكة ، ومن خلل الروابي التي راحت تتقهقر إلى الوراء بسرعة ؛ انبثق وجه زوجته المسكون بأسى متأبّ على الرحيل .. " والآن يا جوان ، ما الذي يدور في خلدك " !؟ لا جواب .. ! 
    " ولكن أنت مطالب بالدفاع عن أنثاك أيّها الكردي ، إنّه ارث الأجداد ، فكيف لك أن تفعل ، وأنت عاجز عن التحصّل على عمل .. أيّ عمل !؟ "  
   عبر الوجنة تحدّرت دمعة حارقة كابرتْ طويلاً ، ربما لأنّ صورة بعينها أخذت تضغط ! كانت تلك صورة ابنه الوحيد الذي انخرط في نشيج حاد ، بعد إذ أفلتت يداه الغضتان - عنوة - ركبتي أبيه ..
" المادة الثالثة والعشرون :
لكلّ شخص حقّ في العمل ، وفي حرية اختيار عمله ، في شروط عمل مرضية .. 
من الإعلان العالمي لحقوق الانسان "
     " إذاً ، هي الأزمنة الممضّة تحلّ ، والوجوه الأنيسة ؛ المنسوجة من شغاف القلب  ونسغ البراري ظلّت خلفك ، بعد أن كان فراقهم - في وهمك -  معادلاً للموت ! فهل ستعود - ولو بعد حين - إلى المحطّات الأثيرة !؟ وهل تلقاهم - الأحبّة - ويلقونك !؟ وهل تمنحك بيروت- هذه - ما منعه عنك بلدك !؟هل تسيء حقّا إلى سورية - التي تعشقها بلا حدود - عندما تسمّي الأشياء بأسمائها الكرديّة !؟ ولكن أوليس الكردي بعاشق للأرض والمرأة ، فكيف لعاشق أن يسيء إلى الأرض ؛ وهي صنو المرأة و الكرامة !؟ بيد أنّ من لم يقيّض له أن يتملّى وجه عذراء كردية ؛ مجبولة بالدم والكبرياء والأقاحي البريّة واللوز وغسق البحر ، لن يتسنّى له أن يفهم ! أيظلّ الخوف يغشاك ؛ وأنت تحتفي بعيد النوروز !؟ ترى أكانت الحال ستختلف ؛ لو أنّك أدرت ظهرك لسورية وتركيا أو العراق ، ويمّمت وجهك نحو إيران ، أم أنّ الحكومات تتشابه في كلّ شيء ، تتفق أو تختصم ، إلاّ في ما يخصّك ، ذلك أنّها - آنئذ - تتّحد في سطر واحد !؟ ولكن لماذا يحشرونك في مضائق الموت ، ليضعوك على مدار الكراهية نحو بشر أحببتهم بقوّة !؟ المهم في المسألة أن تغادر جلدك ، أن تستعير جلد الآخرين ! ليس ثمّة تثريب إن شعرت بالبرد ، أو بدوت مضحكاً أو مُنفراً ، إذ من سيكترث ! ولكن أنت لست ثعباناً يبدّل جلده كلّ حين ! ثمّ ماذا لو أردتّ أن تدفع عن بلدك المضرّج بوحل الهزائم انكساراته ، إذ ليس من المعقول أن تجثم فوق حطامه ، وكأنّ الأمر لا يعنيك !؟ أنت تنتمي إلى هذا المكان - تماماً - كشجرة راسخة جذعها في الأرض ، وفروعها في السماء ! لا تقلْ - مثلا - بأنّك ستتلقّى جواباً من وزارة الدفاع ؛ تأسف فيه لرفض طلبك بسبب ممّا ذكر أعلاه مثلاً ! يا اللّه ! أهذا ممكن !؟ أيحولون بينك وبين شرف الذود عن الأرض التي ارتبطتَ بها بحبل السّرة !؟ البلاد التي تركض على أمل الإمساك بالشمس ستتركك رهين إحصاء جائر ربّما ، إحصاء قامت به حكومة وُسمت - في ما بعد - بالانفصال والرجعيّة ، من غير أن تعمل الحكومات المُتعاقبة على رفع الغبن عنك ، ليرين على المستقبل سربال القلق والغموض والإبهام ! وليضيّق عليك - من ثمّ - في كلّ جانب ، فلا بطاقة تموينيّة تتيح لك أن تشتري جعالتك من السّكّر والرزّ وخلافه بالسعر الرسميّ ، ولا فرصة واضحة لعمل كريم ، أو للحصول على قطعة أرض زراعية ! الدروب تنعدم كماء يضيع في الرمال ، ولغة أخرى تفرض سياقها عليك ، مرّة سعيا خلف وظيفة تنأى ، ومرّة لأداء فرض دينيّ ، أو للتعلم والتفاهم مع الآخرين مرّات ! وها أنت ترى في ما ترى شهاباً يهوي ، فلا يتبقّى لك - ما بين اعتكار الدّم المحرور ، والبلاد التي ما عادت لك - سوى ذاكرة تلوب في البحث عن النديّ واليانع من الأخيلة ، وتسقط في بئر أحزانك الرثة ، لتكتظّ الجمجمة بدمامل متقرّحة ، ومن الأعماق القصيّة تنهض صورة الزوجة والابن باهتة ، فلا تتبيّن إن كان ما يعلو الملامح ابتسامة تفهّم عاجز أم عتاب ، ليبهظك الشعور بذنب لم ترتكبه ، بل أكرهك عليه الآخرون ! بينما أذيال ثوب الصغير الكالحة تنكأ الجراح ، فتضرب جدار العربة بقوّة ! إنّها الطريقة الوحيدة للتعبير عن العجز والقهر ، حينما لا يكون ثمّة سبيل آخر للتعبير ! الرأس تدور ، والقطار يدور ، والعالم يدور ! "
   - تفضّل ، لابأس !  
   مدّ الشرطي يده بالورقة ، و بهدوء أعادها جوان إلى جيبه ، عبر الزجاج كانت المزارع والحقول تتداخل مع العشب البري ، وزهور النوّار ؛ يتخلّلها - هنا وهناك - شيء من ورد الخذراف ، ومع ارتفاع نفير القطار ارتفعت أسراب القطا وجموع الزرازير ، وهرباً من الأسئلة الضاغطة ؛ وضع رأسه بين يديه ، وأغلق عينيه بشدّة ، كمن يهرب من شيء ما .  
 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات