القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

نقد ادبي: قراءة نقدية: في مسرحيتي: «أهلاً جحا» «عفواً مموزين»

 
الأربعاء 23 ايلول 2009


تأليف احمد اسماعيل
القراءة النقدية: خالص مسور

سنقوم في دراستنا هذه معتمدين الخطوط العامة للمنهج البنيوي- أو التفكيكي نوعاً ما وسنوزع دراسة المسرحيتين على حلقتين، في الحلقة الأولى سوف نتناول مسرحية (أهلاً جحا) بينما سيكون "عفواً مموزين" موضوعاً للحلقة القادمة.


أهلاً جحا:
باختصارنقول: أن الكاتب المسرحي احمد اسماعيل يعالج بتجريبته الشخصية وخبرته الطويلة في كتابة المسرحية، هموم ومشاكل العصر في مستوياتها الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، حيث المكان المجتمعات النامية والزمان هو زماننا هذا والتقنية هي استدعاء الشخصيات التراثية إلى الحاضر، ليتسنى له رسم وتحديد الملامح الطبوغرافية للمجتمعات المكبوتة وما يدور فيها في ظل القمع، والكبت، والاستبداد، وطغيان الحكام، وجور الملقنين والمتنفذين وأرباب المصالح الأنانية المهترئة، في زمن بدأت فيه الشعوب تتنفس نسائم واحات الديموقراطية الغناء وتحقق المزيد من المكاسب في الحريات العامة والتقدم والإزدهار.
فالمسرحية الأولى الموسومة بـ(أهلاً جحا)، جاءت في تركيبتها البنيوية كنوع من السخرية الطافحة بالرموز الإيحائية وثراء الإنزياحات الدلالية وتوظيفها في خدمة نقد ثقافي أصيل وملتزم ليرتفع بفكرة المسرحية إلى ما فوق المصالح الأنانية الضيقة ولتحقق مأثرة الدفاع عن مصلحة  الشعب بكل فئاته المسحوقة والمضطهدة. إذاً فنحن هنا عاكفون في محراب مسرحية هادفة تعالج الواقع الراهن باستدعائها واستعارتها لشخصيات تاريخية من أعماق التراث السلامي وإسقاطها على الحاضر توشيها القناع والرمز بطريقة ذكية لافتة، ليضفي جواً من اللذة والإثارة والتشويق على الحواريات السردية للمسرحية الهادفة بامتياز.
هكذا جرى استدعاء شخصيي / جحا وحماره/ كشخصيتين رئيسيتين في هذه المسرحية الساخرة. وجحا هذا هو بطل الفكاهة المرحة والنكتة الضاحكة في الأدب العربي بدون منازع، وهو بشخصيته المحورية الفكاهية تناسب موضوع المسرحية تماماً. ولهذا أجاد الكاتب في اختيار شخصياته وتناول موضوعه بجرأة غير معهودة، منتقداً الأوضاع المزرية التي تعيشها عامة الشعب وخاصة الطبقات المسحوقة في ظل حكومات استبدادية تكون الشخصيات فيها واحد من اثنين، فإما متمرد مطالب بحقوقه وينعت حينها من قبل أزلام الحاكم بكلب ينبح، أو خائف مستكين وحمار ينهق..!. ولهذا سنلمس في البنية الحوارية للمسرحية الجرأة في الطرح والدعوة إلى الحرية والتمرد على المصطلح الإجتماعي المتخاذل، بالإضافة إلى وظيفتها في الإثارة، والإمتاع، والتسلية.
في اللوحة الأولى:
يقدم الكاتب لوحته بعبارة للشاعر محمد عمران، لتكون بمثابة العنوان الثاني الأوضح لدلالة النص المسرحي فتقول العبارة: (ومرة جربت صنوبرة أن لاتنحني فأدبتها الريح. فصار الإنحناء عادة في عائلة الصنوبر). وبالفعل فقد دلل الكاتب بقول عمران هذا على شكل النهاية التراجيدية التي ستنتهي إليها مسرحيته.  ولكني وحسب قراءاتي الأولى للنص المتعدد الدلالات، أرى أن قول عمران هذا محبط للعزائم ويبعث على اليأس والإستسلام، وعلى هذا المنحى جاءت النهاية التراجيدية للمسرحية. وبينما كان من المستحسن للكاتب ألا يبني مسرحيته على المسار الإستيراتيجي للمقولة الإنهزامية البائسة والمثبطة لعزيمة الشعوب وهمم الرجال. بينما يمكن الذهاب إلى أن مقولة محمد عمران يضمر الدعوة إلى التمرد على الفساد ونبذ العادة الضارة والإنتفاض ضدها. ولكن التفسير الأول أكثر رجحاناً حيث لم تتوفر في المقولة ما يدل صراحة على المقاومة ضد العادة والرياح العاتية.
ولهذا فلو كان الحل الأخير وهو الخضوع للعادة والريح هو المعتمد، لكانت رواية العبارة بالشكل التالي هو الأنسب: (ومرة جربت صنوبرة أن لاتنحني فأدبتها الريح. فصار الإنحناء عادة في عائلة الصنوبر. إلى أن كانت شجرة بدأت تضيف إلى جذعها حتى قويت واستقامت، هكذا  صمدت أمام الريح وأصبحت قدوة لجاراتها من الشجر).  
ونشير إلى أن الحوار يجري في المسرحية بين الشخصيات بشكل دقيق وفي غاية الربط والتسلسل والبساطة والإتقان، وهو ما يدل على وعي كبير بالبنية الدرامية، والمقدرة على انتقاء الجملة الهادفة والعبارة الرشيقة، والبساطة في التعبير، والصورة الرامزة، وومضة الموبايل، والكلمة المضغوطة، واكتناز الدلالة الموحية والتشويق والإثارة والإدهاش، وترتيب الاحداث والحبكة المترابطة والزمن المتناسق.
وفي تتبعنا لمسارات المسرحية نرى الكاتب يستعير من الزمن الماضي /جحا وحماره/ القادمين من أعماق الزمن السحيق ويزج بهما في معمعة حوار درامي شيق ومثير مستخدماً عبارات خارقة للعادة والمألوف، حينما يتكلم الحمار وينادي جحا بـ/أخي/ ويطلب منه أن ينهق لأنه في زمن من لاينهق لا يسلم بجلده، والنهيق هنا يرمز إلى اصطناع الكلبية واللامبالاة والعبثية وعدم الإكتراث لمجريات الأحداث في الحياة. لكن يلقى ذلك ردة فعل عصبية من جحا ويرد بأنه ليس حمارا لينهق، حيث يشير الكاتب إلى زمن لا يقبل من الفرد سوى النهيق والنباح والتصفيق وهو منتهى الإهانة والإذلال والخذلان الذي يلحق بالشعوب والجماهير المسحوقة على أيدي زبانية الملك وأزلامه. وقد أجاد الكاتب توظيف المثل الشعبي على لسان العجوز الهارب: (فحينما يعلمون أنني لست كلباً فسيضربونني ضرباً ويسلخون جلدي عن جسدي). جاء ذلك كمفارقة فاضحة في حكاية العجوز الهارب من الاستبداد وهو يصيح /انا لست كلبا/ لأن رجال الملك كانوا يقتلون من ينبح من الناس والنباح يرمز إلى كل من يفتح فاه بمعارضة السلطة وأوامر الحاكم. وهنا جاء الرمز في منتهى التعبير والجمال عن الحالة المزرية لعامة الناس الذين يجب أن يصفقوا للأمير الحاكم  وبدون تفكير وأن يكفوا عن النباح والحمورية والنهيق،  نعم إنه زمن الفاسدين وسراق أقوات الشعب في وضح النهار. ويشير الكاتب إلى هذا بطريقة جد معبرة على لسان جحا الذي يسأل العجوز المذعور الهارب مع حشود الناس الهاربة.
- جحا: ما سبب فرار القوم بهذا الشكل وهو يصرخون بخوف : أنا لست كلبا..
العجوز: الجوع.
حمار جحا: والعظام التي هي من مخصصات الكلاب، ماذا تفعلون بها؟.
وكلمة /العظام/ تشير بشكل واضح إلى سرقة أقوات الشعب الذين تعاملهم السلطة معاملة الكلاب.
وفي نهاية اللوحة الأولى يستسلم جحا للأمر الواقع ويبدأ بالنهيق كما الآخرين وسط اندهاش رجال الملك وأزلامه.
وفي اللوحة الثانية:
يصبح الحمار معلماً لجحا في النهيق ويسخر منه، فها هو جحا وقد أصبح مثله حماراً يأخذ بالنهيق والشهيق. كما جاء جواب الأم لطفلها وهي تشير إلى دمية في صورة الملك أجلسوها على كرسي) فتقول: ......إنه الجالس هلى الكرسي الذهبي يا بني. كمقولة شديدة التعبير عن الخوف والرعب اللذين زرعهما أزلام الملك في قلوب الناس، حتى بات الناس يخافون من الحاكم حتى وهو دمية. والمغزى من هذا الكلام هو القول بأن الشعب الذي أصابه داء العجز، والخور، والخوف، واليأس شعب لايصنع تاريخاً ولا ثورة، بل يتحول بأجمعه إلى مهرج غير ذي شأن في السيرك الملكي ( السلطة) وأنه سيأخذ بالنهيق لا محالة ضد مصالحه، لا بل سيصبح يداً ضاربة ً للملك ضد الفئة المتنورة من الشعب.
وفي حوار آخر للأم مع ابنها يظهر مدى الزيف والنفاق وغسل الدماغ للأطفال والفئات الإجتماعية المسحوقة  في ظل سياط القمع وتراجيديات السلطة المأساوية ضد الشعب المستكين.
الأم: تحب من يا بني؟
الطفل (بانتشاء): سيدنا ومولانا الحاكم.
وبناء على هذا فقد هجم الناس على جحا إما عن جهل أو خوف، بعدما انتابه شييء من روح  والتمرد ومعارضة الأوضاع البالية التي آلت إليها حال الفئات الجائعة، هكذا تعرض رأس المتمرد جحا للسخرية والهجوم من قبل الفئات الجاهلة نفسها والمغرر بها سلطوياً، منحازة إلى صفوف المستبدين وسارقي قوت الشعب ضد مصالحها الذاتية، متهمة قوى التمرد بالخيانة والمروق والكفر والقذارة.
وفي اللوحة الثالثة
في أضواء اللوحة الثالثة، تخلق إحدى الحواريات حالة من الدهشة والاستغراب حينما يرفض الحمار أن يصبح إنساناً فيقول:
الحمار: لا أريد أن أصبح إنساناً، لا أريد أن أغير أصلي يا أخي.
وعبارة الأصل تشير إلى تعالي الحمار على الأنسنة في ظل الموبقات والشرور والآثام التي تصدر عن الإنسان في تعامله وعلاقاته مع بني جنسه في ظل أجواء مأساوية لاتناسب حتى الحمير ذاتها. وهنا أيضاً تتعدد الإشارات الدلالية لمقولة الحمار الرافضة لأن يتحول إلى إنسان إما قامع أو مقموع أو ابن جارية وست.
وقد أحسن الكاتب صنعاً بخلق شخصية /الملقن/ هذه الشخصية المحورية في النص المسرحي والتي تعبر أفضل تعبير عن الحالة الراهنة للمجتمعات المتخلفة الملتهبة الظهور تحت سياط القمع والجلد، وعن تصرفات أزلام السلطة الذين يكممون ليست أفواه الناس بل أنوفهم أيضاً ليتخلص  أزلام السلطة مما يسمونه وباء الحيونة التي ترمز إلى كلام الناس على السلطة ومساوئها.
يقول الضابط: للتخلص من هذا الوباء، وباء الحيونة، ومجابهته، لابد من إغلاق الأنوف والأفواه باحكام.
وهناك الثور الهائج الذي يثير الخوف ويطارد الناس في الأزقة والساحات العامة والثور هو رمز المستبد أو أي نوع آخر من أزلام السلطان وحاشيته ممن يثيرون الرعب بين الناس بمناسبة وبدونها.  
وفي اللوحة الرابعة:
يصبح جحا قاضياً على المسرح ولكنه لم يلبث أن يتمرد على أوامر /الملقن/ في جرأة غير معهودة فيبرء الرجل المتهم بحادثة تلويث الشوارع، ويلقي بالتهمة بدلاً منه على الشرطي الحاضر في المحكمة. كما يناصر المراة الخادمة المقموعة والمتهمة بسرقة فخذ دجاجة مشوية من على مائدة مخدومها صاحب العصا المتسلط والأرستقراطي الفحل الذي لايني يهش بعصاه في المحكمة فوق رأسها ويطلب من جحا إدانتها ومعاقبتها على جرم صغير لم ترتكبه.
بينما يحاول جحا القاضي مناصرة المرأة ومصادرة عصا الرجل رمز القمع والتسلط الذكوري، بل يطلب من الجمهور كسر العصا على رأس صاحبها وهو ما يرمز إلى الدعوة إلى ثورة شعبية عارمة والدعوة للتمرد ضد القمع والطغيان،لكن يفاجأ جحا القاضي بتهمة الجمهور له بالسفه والعمالة والخيانة، فيهاجمونه ويضيقون عليه الخناق، مما يؤدي إلى إعدام جحا شنقاً على يدي المخرج وهو ركن من أركان السلطة، وقد أعاد المخرج العصا إلى صاحبها إشارة إلى فشل التمرد وعودة السلطة إلى مغتصبيها، ويحنى في النهاية رأس المراة من قبل المخرج، بينما لم ينجد أحد جحا وهو يصيح:
افعلوا شيئاً. افعل شيئا يا..
ولكن ما من مجيب...؟1!!
وهنا أيضاً وفي كل عبارة وجملة نص متعدد الإشارات، ونص تكننز بالثراء الدلالي يفسح المجال لذهنية المتلقي لإنتاج نص مسرحي جديد وحسب حهوده وفهمه وبطريقته الخاصة.
..............................................................
ملاحظات نقدية تقويمية:
باعتقادي أن هذه المسرحية أحد الأمثلة النموذجية عن النص المفتوح والتعدد الدلالي، والمنهج الأفضل والمناسب لتحليلها ودراستها هو المنهج النقدي التفكيكي المابعد حداثي نظراً لتوفر خصيصة الهدم والبناء فيه، وبالفعل فقد وجدت في كل جملة أو عبارة حوارية تواشج نص مفتوح ينفتح على إيحاءات دلالية متعددة لتتضافر في النهاية في لحمة نسيج فني متقن الصنع أبدعته يد رسام خبير.
وسنشاهد من خلال دراستنا هذه كيف يستخدم الكاتب تداخل إمتدادات الخصائص الزمنية حسب (ماكتغارت) في تقديم فكرة المسرحية لخلق حالة من التماهي بين ايتعادة الماضي بكل ببساطته وعفويته، والحاضر بكل شرور وآثام الطبقات المستبدة المتحكمة في رقاب البلاد والعباد العاملة على ليس كم الأفواه فحسب بل الأفواه والأنوف معاً، وتسجيل حالة من انتقالات الحدث الدرامي المتصف بالسلاسة والربط التلقائي المحكم بين أحداث المسرحية بإسلوبية تجمع بين الإثارة والتشويق والبساطة في المعالجة والطرح، أو تناول الحدث بتقنية الترميز الموحي والشفاف، وهو ما يفسيح دوماً المجال للمتلقي للنبش في حفريات المسكوت عنه وليشارك في إنتاج النص المسرحي بجدارة واستحقاق. وقد جرى التعبير عن المسكوت عنه بإبقاء الجملة إما ناقصة ليكملها المتلقي حسب فهمه وذوقه أو عن طريق ترك نقاط} ...{ في أواخر الجمل الحوارية كناية عن المسكوت عنه والذي لم يذكر صراحة.
كما في الحوار التالي مثلاً:
العجوز: لست..
جحا: أنظر إلى نفسك وستعرف إنك لست..
بهذه التقنية الإسلوبية يخلق الكاتب النص المسرحي المفتوح مفسحاً المجال للمتلقي ليفك رموز المسكوت عنه أو اللا مفكر فيه بتعبير المغربي محمد أركون، ليصبح القاريء أو المتلقي بالفعل هو المنتج الثاني للنص لا مستهلكه.
ومن جهة أخرى فقد أدى الإكتناز الإشاري أوطي العبارة الحوارية التي بنى عليها الكاتب مسرحيته وممارسة الفحولة والقمع عليها، أدى إلى تحجيم دورالامتداد والنشرللعبارة الحوارية الملهمة وهو ما أثر بقوة على جمالية التلقي. وكان من الممكن للعبارة المقموعة والمغيبة عن الحوارية أن تضفي المزيد من عناصر التشويق والإثارة فيما لو أضيفت إليها بطريقة أدبية. فمثلا في الصفحة (14) من اللوحة الأولى وبعد هروب العجوز من ملاحقة أزلام حاكم البلاد له، والذين كانوا يعمدون إلى قتل كل من ينبح من الناس حسب تعبيرهم، وهنا يرد الحوار التالي بين جحا والعجوز.
جحا: ما سبب فرار القوم بهذا الشكل وهم يصرخون بخوف: أنا لست كلباً..
.....
العجوز: بسبب الفرمان الذي أصدره حاكم البلاد، والذي يقضي باعدام الكلاب.
الحمار وجحا: الكلاب؟!
ولكن كان من الممكن هنا إضافة العبارة الإدهاشية الشيقة - وهل أنت كلب؟ أو هل أنت..
لتأتي العبارة السابقة بالشكل التالي:
الحمار وجحا: (معاً وباندهاش): الكلاب...وهل أنت كلب؟!. أو الكلاب؟!  وهل أنت..
وهنا نرى نوعاً من التنكيل بالعبارة المغيبة /وهل أنت كلب/ وهو الأمر الذي يتطلب منا ألا نمر مرور الكرام على كلمة/الكلاب/ دون أن نظهر حالة الإدهاش التي سيطرت على كل من جحا وحماره لحظة سماعهما للخبر، لأن العبارة تجمع ما بين الإيقاع والإدهاش والتساؤل مما أدى إلى خلق حالة خارقة للحالة الإجتماعية وغير مألوفة تماماً.
ثم هناك العبارة الواردة في الصفحة (17) من نفس اللوحة والتي جاءت ركيكة في التعبير بعض الشيء وهي:
الحمار:....فإنهم سيضربونني ضرباً حتى يجعلوا من جلدي طبلاً. وأعتقد كانت العبارة ستكون أجمل في سياقها الحواري فيما لو قيل بدلاً منها: فإنهم سيشبعونني ضرباً حتى يجعلوا من جلدي طبلاً. لأن خشونة الصوت في الضاضين لا تستسيغه الأذن أولاً، ويفرط في رشاقة العبارة وشاعريتها ثانياً.
كما جاءت العبارة التالية وهي من اللوحة الثالثة صفحة (49).
الحمار: (يضحك): دخول الحمام ليس مثل خروجه يا سيد.
فكلمة/خروجه/ هنا تفتقر إلى الدقة التعبيرية والأنسب هو: دخول الحمام ليس مثل الخروج منه يا سيد- وليس خروجه فالمصريون في هذا المثل الدارج يقولون: دخول الحمام مش زي الخرج منه. أي نقول: منه، وليس خروجه.
ويحق لنا أن نشير هنا إلى لفتة ذكية من الكاتب الذي استطاع توظيف الاسلوب المخابراتي للمخرج في مكانه الناسب، حينما طلب المخرج - وهو يرمز إلى نموذج لأزلام السلطة- من أحد الحضور وهو /جحا/ المعمم والقائد الشعبي الذي سيتمرد في النهاية، أن يصعد المنصة ليمثل دور القاضي وتنفيذ قوانين الإستبداد الجائر على الناس وضرب الناس بعضهم بالبعض الآخر، عن طريق القضاة والمعممين هذه المرة فيقول:
المخرج: تفضل إلى هنا. تفضل واصعد إلى المنصة.
 هكذا بلهجة آمرة وبدون مجاملات يطلب المخرج من جحا الصعود إلى المنصة لتمثيل دور القاضي السلطوي، وبذلك جاء توظيف الحوارية في مكانها الدقيق والمناسب جداً.
ونؤكد على كلامنا بعبارة أخرى مماثلة في الصفحة (56) عندما نادى المخرج جحا  ليمثل دور القاضي امتنع جحا في البداية عن القبول بحجة عدم الكفاءة، ولكن يرغمه المخرج باسلوب سلطوي مرة ثانية ليقول:
المخرج: لا كفاءة عالية ولابطيخ يا رجل. إجلس على هذا الكرسي وكفى. نلاحظ الخطاب جاء هنا بصيغة الأمر والإرغام وسد الفاه /إجلس وكفى/. فيجلس جحا.
- جحا: (يجلس باستسلام وسرور) حسن إذا كان الأمر كذلك فلا بأس.
هنا نقف أمام تعدد المستويات الدلالية للعبارة الحوارية مرة أخرى، ومع هذا سنشير إلى أن العبارة المحصورة بين قوسين لم توظف في مكانها المناسب هذه المرة وبدت العبارة متناقضة مع نفسها، بل كان التناقض صارخاً بين كلمتي/الإستسلام والسرور/. فجحا الرافض للاستبداد والمستبدين من المحتم أنه لم يكن راضياً ولا مسروراً من إرغامه على محاكمة شعبه أولاً، ولأن من يستسلم مرغماً لايكون مسروراً من وضعه ثانياً، كما لا يمكن الجمع بين الإستسلام والسرور في السيكولوجية البشرية ثالثاً، كما أن القاضي جحا يعلم بوجود المخرج سيكون قاض لا حول له ولا قوة! ودوره هو تكرار كلام الملقن لا أكثر ولا أقل رابعاً. ولهذا - وحسبما أعتقد - فلو جاءت عبارة ما بين القوسين بالشكل الآتي لكانت أنسب وأكثر ملائمة للموقف وهي.
جحا: (يجلس بحذر وامتعاض) حسن إذا كان هذا ما ترغبون فلا بأس!
هذا ما أراه. ولكن مع النقودات النسقية الحديثة والتي تأخذ بالنص المفتوح وتعدد الدلالات، عندها يمكن أن تأخذنا العبارة القوسية إلى دلالات شتى، ، كأن يكون سرور جحا سببه الفرصة المواتية له للدفاع عن الشعب الملتهب الظهر بسياط القمع والإستبداد أو....أو....دلالات أخرى. لكن ما يغرينا بالتركيز إلى ما ذهبنا إليه في التفسير الأول وهو ذهابنا إلى القول بالتناقض بين الإستسلام والسرور، لأنهما يصعب اجتماعهما في عبارة واحدة. وهكذا أرى أن تعدد الإشارات التي تحفل بها الحواريات المسرحية هي الميزة الفنية الأبرع للتوهج الدرامي الذي أبدعتها تجربة الكاتب المسرحية هنا، فكل كلمة، أو جملة، أوعبارة، وحوارية...الخ. تتعدد دلالاتها ما بين بنية سطحية وبنية عميقة تتعدد مستوياتها الإشارية فعلاً، مما يشكل تحدياً واستفزازاً جدياً للناقد الجاد وللقاريء والمتلقي معاً!.
وفي الصفحة المقابلة (57) يرد مايلي:
المخرج: (يقاطعه بضيق) أف..كفى أسئلة يا عماه. لقد تأخرنا ويجب أن نبدأ.
لقد قلنا أن المخرج هو رجل سلطة ورجل السلطة – في العادة- إذا ما انتابه الغضب من مواطن مقموع سوف لن يقول له الكلمة التحببية يا عماه أو بأي لقب من ألقاب التحبب الأخرى، بل الأنسب هنا هو أن يقول المخرج: أف.. يا رجل  بدلاً من يا عماه، وهذا هو الأسلوب الأفضل في الجملة الحوارية هنا، والعبارة الأكثر رهافة لدى أزلام السلطان في في مثل هذه المواقف في مخاطبة أفراد الشعب المشاكسين للسلطة الإستبدادية والمقلقين لراحتها، في يوم تنتفي فيه المجاملات... عند آساد غضاب...!!!.
والنقطة الأخيرة التي لا نراها في مكانها الأنسب حسب إحدى قراءاتنا للمسرحية، هي النهاية التراجيدية لجحا القاضي المتمرد ضد كرابيج القمع والاستبداد، فكانت نهاية سلبية تماماً ومثبطة للهمم إلى أبعد حد. فرغم بطولاته ومآثره من أجل الدفاع عن قضية الشعب، إلا أن هذا الشعب خذله في أحلك ساعات عمره ولم يناصره وهو يقارع أزلام السلطة والمتنفذين وعنجهيات الارستقراطيين الذين يمثلهم صاحب العصا. ليجرى إعدام هذا البطل المتمرد بشكل مأساوي مرير وهو يستنجد بالشعب ويستغيث ويردد: إفعلوا شيئاً. افعل شيئاً يا.. ولكن لم يفعل أحد له شيئاً،  بل كان الشعب مرعوباً صافاً إلى جانب الحاكم يهتف بخيانة القاضي جحا ويصفق للحاكم. بينما حسناً فعل الكاتب مع العبارة الخطابية- إفعل شيئاً يا.. ليترك للمتلقي يملأ فراغات النقط وليبعده عن النتائج المقررة سلفاً وعن دوغمائية الكلام التقريري المباشر.
- وفي قراءة مماثلة جاء أحناء رأس المرأة المتهمة بسرقة فخذ دجاج لصاحب العصا بيدي المخرج، وهو ركن من أركان السلطة كناية عن انتصار الإستبداد على التمرد الشعبي. وكأنما يريد الكاتب أن يلقن الجمهور: بأن لا مجال لمناوئة الاستبداد، والنهاية الحتمية ستنتظر كل من تسول له نفسه الإشتغال على النقد والتمرد ضد أنظمة الفساد وأزلامها. وهذه نهاية في منتهى السلبية وتحطيم الآمال للشعب المقموع والمكافح في سبيل الديموقراطية والحرية في العالم الثالث وغير الثالث.
- بينما يمكن أن نذهب وحسب المنهج الجدلي إلى قراءة تالية في حفريات النص المسرحي- وهي القراءة الأجمل والأنسب هنا ونقول: أن الكاتب يريد من النص المسرحي التعبير بأن أزلام الملك أناس لايقهرهم فرد واحد أو شعب خائف متخاذل لا يسير خلف قيادة تاريخية واعية ومضحية يسير وراءه من أجل مصلحته وحريته. أي أن المسرحية تركز هنا على دور الشعب في كسر القيود والحدود، وتشير في هذه القراءة الأخيرة ضمناً إلى أنه لو كان هناك شيء من الوعي الشعبي وتلاحم مصيري مع قائده وقاضيه لاستجاب لندائه للشعب: إفعلوا شيئاً. افعل شيئاً يا..  لما استطاع المخرج إحناء رأس المرأة للأرستقراطي صاحب العصا، ولما استطاع شنق القاضي واعدامه على مرآى ومسمع من الجمهور المنحاز ضد بطله، وبالتالي ضد مصاله نفسها.. فالشعب الجاهل لايصنع ثورة.
.........................................
في الحلقة القادمة سنتناول بالنقد والتحليل مسرحية/ عفواً مموزين/.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.33
تصويتات: 6


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات