القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

الفنون الجميلة: فيفيان الصائغ تجاور صوت المطر حتى تملك عذوبته و لغته الخاصة

 
الأثنين 29 اب 2022


غريب ملا زلال 

" خُلقتُ لأرسم " جميلة هذه العبارة التي قالتها التشكيلية السورية فيفيان الصائغ، و موحية جداً، و تكاد تلخص سر الوجود، و سر الروح فيها، بل تكاد تكون و بجدية عالية الإجابة الوافية عن الكثير من أسئلة الحياة و الفن و جمالياتهما، فهي هنا و ضمن المتغيرات السريعة حتى في تلافيف اللحظة تتسارع بدورها لتعبث بالبياض و بجذوره الممتدة في الأفق، ملتجئة إلى شقائق الألوان و هي تلامس ذلك البياض بفعل حضاري، و بعشق قادر على التعبير بلغته التي تحمل كل مفردات الإحتواء .
خلقت الصائغ لترسم، تؤكد بذلك أن الإنسان هو صانع الحياة و جنتها، مهما كان المناخ السائد ملوثاً، فهي هنا تصنع قدرها الحتمي، القدر الحافل بالمفاجآت و الأسرار، و بأن المصالحة مع الذات تختزل كل ألوان الحياة في مزاجة واحدة، و بأن خطواتها ليست إلا تجليات لألوانها،


 و بذلك تضفي مكانة أخرى لتلك الألوان، و بالتالي لتلك الخطوات، فهي لا تقف وحيدة لتسرد قصة الإنسان في هذه الحياة، بل ترسم تلك الحياة و تزخرفها بالشكل الذي يجب أن يكون، فلا حدود لملامحها، و لا حدود لإنتماءاتها، ففرصة البحث عن الذات تكمن هنا بين ألوانها و خطواتها تلك، و حينها و بما تمليها عليها مقولة التجربة الإنسانية، و بالتوازن مع الوحدة العضوية لأجزائها التي تتسم بالمفارقة من حيث بنيتها الدرامية تتفاعل بطريقة تجر مجمل العناصر الفنية التي تدخل في بناء عملها الفني إلى صياغات تعكس الثوابت الإنسانية، و معانيها المكثفة، مع مقوماتها الإدراكية و ما تحمله من آثار متبقية من تجربة عنيفة إلى حد بعيد، تجربة تلفها قيم تعبيرية تؤكدها ذلك الشريط الطويل من الإنفعالات و العواطف بعنفوانها و حرارتها، و تؤكدها كذلك تلك الألوان بملامحها الحزينة، و بحركتها المتعبة، و هنا تبرز ذروة الألم بإخلاصها و صدقها، فهذا الإندفاع الإنفعالي و بهذا الحشد له أهميته بالنسبة للصائغ و لمشروعها الجمالي، فبه تتجاوز مناطق القحط و التجفاف و ما تعيشه من تلاحمات ضمن فراغ ما و إن كان هذا الفراغ ممتداً في الروح و تشكل المساحة الأكبر التي على الصائغ أن تشغلها بدوائر من ذاكرتها، و تشحنها برؤياها الجديدة، حتى تتدفق تلك المآسي الإنسانية بغزارة من داخلها نحو بياض العمل .
فاليوميات المرسومة كمفارقات معتقة و بأبعاد غير تقليدية و التي تتعدى حالات التأمل و الإبحار ستكشف بإستمرار ذلك السيل الجارف من القدرة الإبداعية، و بالتالي ستكشف تلك التربة الخصبة التي عليها تعمل الصائغ، فالإحساس الذي يملؤها هو ذات الإحساس الغارق في أعمالها، و الصادر منها لدواخلنا، هذا الإحساس الحيوي بحركته، الفاعل بإيقاعه، الداكن بتأثيره، تسيل من جسد اللوحة بزخم حافل، لا كطقس قادم من أسطورة ما، بل كسيمفونية تصنع فينا الإنسان، تصنع فينا لحظات مقدسة . 
منذ تخرجها عام 2001 من معهد إدهم إسماعيل بدمشق و الصائغ لا تهدأ، فهي في حركة مستديمة لا دوائر فيها، حالة الصعود تفرض ذاتها عليها، و تشكل تلك الإرتعاشات التي تحتدم ضمن حساسية خاصة، و التي تستمد نبضها من تلك المحرضات البصرية التي تتشظى و هي ترفد عملها بهذا الكم من الهدوء المنحاز لدواخلها، أقول تشكل تلك الإرتعاشات بوابة الحضور لطقس يخصها هي، بعناصره، و بروحانيته، التي بها تبصر الحدث و محنته، فالصائغ و بملامح تمس الخراب توغل في ذاتها أولاً، و في المشهد الإنساني الآيل للسقوط ثانياً، تحتفي بإنحيازها العميق نحو تحريك المشهد لا على ثباته، تحتفي بلغتها المكتنزة لجماليات هي الأخرى تعبيراتها في مواجهة هذا التحدي القبيح، القبيح بغضبه المؤلم، و بإشتعاله للروح المتصدعة حتى الغموض، مما جعلها تلجأ إلى التراب الغائم بالإنسان حتى تجتاز الطريق و فوضاه، حتى تنفلت ألوانها الترابية من بين أصابعها على فضاءات الوجع الذي لا ينتهي، فهي تمتحن الأشواك و هي تتلاطم على جسد شديد الهتك، تمتحن الألم و هو يدمع من أرواح عملها، الإيغال فيه تداعيات غربة و سمومها، تداعيات لا حدود للأشياء فيها، وحدها الفصول كلها تأتي إليها كأنها تلمس خبايا عشق في معبد قديم .
صحيح أن الصائغ تنظر إلى الفن كدعائم للحياة الواقعية و المعاشة منها على نحو أدق، إلا أن ذلك لا يبعدها عن الحياة التي تكون أكثر جمالاً إذا إرتبطت بالحس الفني، و بالثقافة البصرية، فمن أجل الإنتماء إلى الجمال و خلقه و تفعيل تأثيره و نثر أريجه يكون العنوان نابضاً بإبتسامته، فاللحظات القلقة و المتوترة غير واردة في عمل الغد الآتي كالضوء الذي يدخل نافذتها كل صباح، و هي تدرك تماماً بأن المبدع لا يشبه أحداً إلا نفسه، لا يشبه إلا كتلته الداكنة منها أو المزخرفة، و كأنه قريب من سموات خلقت له كي يقعد على عرشها و يقول للجمال كن فيكون .
صحيح أن الصائغ تتخذ من المرأة عنواناً للوحاتها، و ليس في ذلك غرابة، لكن أن تدخلها في لغة اللوحة و تكون أبجديتها، بل لسان حالها، و بتأثيراتها الزمنية و الحسية على كل سطوحها، و تقتل النعاس فيها، فهذا هو الإنتماء بعينه، الإنتماء الذي يتلاشى في جسد لوحتها، أو قد يقفز من الإطار و يمتد في ذلك السراب المسافر في اللانهائي، فالصائغ تهتم بكل ما يحرك الركود حتى لو كان وجعاً نائماً في قلب إمرأة طحنها العشق، تهتم بنفسها أولاً فهي المرأة ذاتها التي تفرض رائحتها في لوحتها و تشد المتلقي إلى العبق الغائب، تهتم الصائغ في تقديم عملها على أنها مجموعة أعمال تنبض بنا جميعاً، المرأة على نحو خاص، و الإنسان على نحو عام، فالمعطيات الإبداعية عندها بلا حدود، و لا ترقد بهدوء، بل تزحف بحب و قلق، و تجاور صوت المطر حتى تملك عذوبته و لغته الخاصة، حينها فقط تضع اللاحدود لمسافاتها التي تستحق أن تجوب الأرض و أكثر .

















 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات