القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قراءة في كتاب: قراءة في رواية «حبوكر» للكاتب ريدي مشو

 
السبت 03 تموز 2021


هيفي الملا - أربيل

(لايمكن الانسلال إلى روح الأشياء مالم تفقدها حدودها وتفقدك حدودك، فتصبح منك وأنت منها، حينها يبدأُ الخلق) «حَبَوْكَر» العمل الروائي للكاتب ريدي مشو
العمل الذي يدفعُ القُارئ مباشرةً للبحثِ عن المعنى اللغوي للعنوان والذي وضّحهُ المؤلفُ في الصفحةِ الأولى، ولكنه يبقى مموهاً على أملِ تجلي انعكاساته وضبطِ إيقاعه مع النسقِ السردي.
«حبوكر » هل هو الرمل الذي يرمزُ للفراغِ والضياعِ والامتداد والذي يتوهُ فيه الذكيُ و البسيط والداهيةُ ، أم هي الجغرافية الظالمة التي تتلقفُ المصائبَ كقذائفِ الحربِ التي لاترحم فإما تُميتُ أو تُميتُ .. وكم للموتِ من لون!!!


عنوانٌ مواربٌ قد يجهدُ القارئُ في الربط بينه وبين النص الروائي، والعناوين الفرعية التي تسهلُ مهمةَ القارئِ وتجذبُ انتباههُ،حملتْ أيضاً دلالات وإيماءات زمنية بين الامسِ والحاضرِ وفجر العودةِ،حتى تمزقَ ذلك الفجرُ وتضاءلتْ السماء .
تبدأ الروايةُ بمسحةِ خيالٍ وبتناغم حركةِ إصبعِ جكو مع حركاتِ النجوم محلقاً بخيالهِ لتصفعهُ كفُ الواقعِ بانتحارِ والده، وهكذا هي الأحلام والخيالات مبتورةٌ أبداً مقصوصةُ الأجنحة تتخبطُ بقسوةٍ على الأرضِ والعينُ معلقةٌ بالأفقِ. ولكن البراءةَ لاتلبثُ تطفو على وجهِ الروايةِ من خلالِ ألعابِ الأطفالِ البسيطةِ بالوحلِ الذي تخلفهُ الحفارات. 
 أبطالُ الروايةِ أطفالٌ يعبِّرون عن أنفسهم عن علاقاتهم وتطلعاتهم وأحلامهم المتشابكة الملتقية ولكن بخطٍ اعتراضي مع أحلامِ الآخرين.
 العملُ ليس مزدحماً بالشخصياتِ لنتوهَ أونضعَ لأنفسنا الإشارات للوصول لها، ولكنها شخصياتٌ عنكبوتية العلاقات بدءً من العلاقة الثلاثية بين جكو وراكان وصديقتهما آرنينا التي كانا يتقاسمان حبها، حتى عندما يتدخل رمو في هذه العلاقة ينزلقُ دون إرادتهِ بأمرِ قلبه فيزيدُ من تشعبها .
الروايةُ تتناولُ الجزيرةَ السوريةَ وتحديداً القامشلي كبيئةٍ مكانيةٍ فنقرأُ أسماءَ حارات متعددة وكذلك تناوب الأحداثِ والظروفِ عليها، حتى إنَّ المؤلفَ يدركُ سمةَ التفكير الغالبة على كلِ حارةٍ مذكورةٍ، لأننا بشكلٍ أو بأخر جزءٌ لايتجزأ من ذاكرةِ المكان، كما أنه أشار إلى أماكن أخرى مثل دمشق التي كانتْ ملجأ راكان الذي رجعَ عنها لمسقطِ رأسه بعد سنين طويلة، وماردين من خلال شخصيةِ التاجر المارديني الذي سرقَ أموال والد جكو زارعاً حبَ الانتقام وبذرة القسوة في قلبِ جكو.
يعكسُ المؤلفُ رؤاهُ ضمن إطارٍ زمني من عام ٢٠٠٩ تقريباً رغم الإشارةِ إلى سنواتٍ سبقتها يوم انتحرَ والد جكو بسبب إفلاسهِ وتلطختْ الآياتُ القرأنية بدمِهِ ليتصاعدَ الخيطُ الدرامي رويداً رويداً.
 تبرزُ الأفكارُ السياسية من اعتناقٍ  للشيوعية وتسرب أفكار ماركس ولينين ، وتمرد آرنينا في الجلسات الإسلامية وطرحها أفكار دانتي ونيتشه وماركس وبوذا. 
ثم الإشارةُ إلى سيطرةِ الفكر الإسلامي من خلال حلقاتِ التوعية بوجوب الالتزام بفرائضِ الدين والحجاب وأركان الإسلام، ولكن هذا الإيمان برزَ ساذجاً من خلال شخصيةِ حسن زوج آرنينا الذي كان يشعرُ وكأن المثقفين يتأثرون بكلامهِ، وقد يُخضِعونَ أنفسهم لمراجعةٍ ذاتيةٍ نقديةٍ بعد الحوارِ معه عن أصولِ الإسلام . 
 وكانتْ الإشارةُ إلى وحداتِ حمايةِ الشعبِ عندما قررَ دلو الانضمام لها، و أيضاً المظاهر والهالات المقدسة لطقوسِ الجنائز ومظاهر التشييع .
ملامحُ صراعٍ سياسي واجتماعي واضحٍ في مجتمعٍ سوري عامةً ،كردي خاصةً، ولكن المؤلف لم يتعمقْ في تأثيرِ السياسة على الحياةِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ وتشويهِ النفسيات ، ربما لأنها ليستْ روايةُ حربٍ وثورة بل رواية اجتماعية أميلُ للفكرِ والفلسفة وتغازل حواسنا أحياناً ريحُ التصوفِ فيها.
 تتجلى أيديولوجيةٌ محددةٌ في النسقِ الروائي وهي اللانتماء بمعنى عدم الانتماءِ إلى قضيةٍ بعينها أو إلى مشاعر محددة حتى القارئ يجبُ أن يكون غير منتمي، فالمنتميون يخلقون الحروب كي يبقوا على إيمانهم، وحالة اللانتماء ستفضي من كُلِّ بدٍ إلى رفضِ الحربِ كحالةٍ وجودية دون الانحياز لطرف دون الآخر، «لاتطور وجودي في الحرب، قد تتطورُ الآلاتُ والادواتُ لكي يستمرَ القتلُ بطريقةٍ مختلفة، أما الإنسان فلا يتطورُ» ص ١٥٠ 
ولا أُخفي أن تطعيمَ الكثيرِ من المواقف بالفلسفةِ وإظهارِ جانبها الفكري والتركيز على الانتماء في مواضع عدة وفي العديدِ من المواقفِ والأقوالِ طغى في رأيي على رشاقةِ الحوارِ وانسيابيةِ السردِ الروائي أحياناً .
 الكاتبُ كانَ واضحاً في تصويرِ تناقضية المجتمع وتلَّونه وازدواجية أفكاره ، فالرجال الذين كانوا ينتقدون انحرافَ المرأة الروسية وسلوكياتها كان يسيلُ لعابهم في حضرتها، وآرنينا التي قبِلتْ ولو بروحِ الطفولةِ أن يتشاركها اثنان تمنحُ هذا وتتمنى الآخر، وتتبنى الأفكار الشيوعية وربما هذا الاعتناقُ ما سوّغَ لها أن تتزوجُ بائعَ خضارٍ بسيطٍ، البائعُ المسلمُ شكلاً وتقليداً، غَضَّ الطرفَ عن عدمِ عذريةِ زوجته، ولم يستطعْ أن يفرضَ عليها الحجاب وطريقة اللبس،
ليشعرَ وهو يحاورُ راكان بأنه المسلمُ الناهض بالحريةِ والحداثةِ، وبنفسِ الوقت يتمنى أن تؤثرَ حلقاتُ الدينِ على زوجتهِ فتصلي وتضع الحجاب .
استوقفتني كذلك شخصيةُ راكان العائد من دمشق للقامشلي وضياعه الايديولوجي «بدأ بِعَدِّ المقابر مشيراً بأصبعهِ إلى كل قبرٍ وحولهم إلى أرقام، عوضاً عن التأمل في تضحياتهم» ص ١٩٢، و كذلك إحساسهُ بالرهبةِ من المكان وعدد الشهداء و الهتافات، أحسستُ ببعضِ المبالغةِ في دهشةِ راكان وغربته عن المكانِ فبينَ القامشلي ودمشق يتبادلُ الأهلُ أخبارَ الساعةِ، والثورةُ بسطتْ جناحيها على كل المناطقِ والمحافظاتِ السورية، وهدير الموت ولون الأعلام وهتافات التبجيل كانتْ معلومة ومرئية للجميع .
حباتُ القمحِ التي كان ينثرها رمو للطيورِ ودوماً تنتفخُ بها جيوبهُ، رمزٌ راقَ لي لبيئةِ الجزيرة التي تعتمدُ اقتصادياً على منتوج القمحِ، فالمؤلف لم يركزْ على زراعةِ القمحِ وحصادهِ وسرقةِ مواسمه، بل جعلَ رمو ينثرها للطيورِ التي إن رمزتْ فسترمزُ للشعب التواقِ للحريةِ والخلاص. 
التحنيط الذي عشقه جكو و فكرة تعامله مع الدمِ أنابعة من قسوةٍ لسيطرةِ فكرة الانتقام عليه؟ أم هو القتل صمتاً وهو من لم يقتل كل من كرههم جهراً؟ أم هي فكرةُ الخلودِ لاستمرارِ حيوات تلك الطيور؟ أم فكرةٌ أكثرُ فلسفة بأنها عمليةُ غضبٍ وقبضٍ على الزمن؟ أم هي العواملُ كلها مجتمعةً ؟
شخصياتٌ تسبحُ في ماءِ الروايةِ تطفو حيناً، تغرقُ حيناً آخر لكن لكلِ شخصيةٍ رمزيةٌ ودلالةٌ قد نفهمُ تأويلَ الكاتبِ لها باختلافاتِ القراءةِ والثقافةِ والتوجه، ولكنها تبقى شخصياتٌ أقدامها على الأرضِ وخيالها في السماءِ مترنحةً كبندولِ الساعةِ بين الواقعِ بتفاصيلهِ وظروفهِ وبين ظروف الشخصية الخاصة وتفاصيلها الدقيقة. 
الحضورُ الأنثوي كان خجولاً في الرواية عدداً، عبرتْ عنه آرنينا المتمردة منذ صغرها، الصارخة في التعبيرِ عن نداءِ فكرها وجسدها أيضاً عندما فتحتْ أبوابَ بيتها وكأنها تصرخُ من كلِ شيءٍ مسلوبٍ٠
والخاتمةُ التي تتبلورُ منسجمةً مع تدرجاتِ الأحداثِ ومصائرِ الشخوصِ، توقعتُ أن تكونَ مفتوحةً وهي النهايات التي أحبها والتي تعطي الحريةَ لعنانِ تفكيرِ القارئِ ليلعبَ بمصائرِ الأبطالِ كيفما يشاء، فكوَّنَ الابطالُ لوحةً رماديةً معلقةً في بهوِ جغرافيةِ وطنٍ أضاعَ البوصلةَ، لوحةٌ نقرأُ فيها ملامحَ الضياعِ والموتِ والتشتتِ مابين الأملِ والألمِ. 
 نهايةٌ دراميةً منكهةً بالفلسفةِ، ففي زمنٍ يموتُ فيه الإنسانُ رخيصاً تبقى الأغنيةُ، بل أن هذا العبثُ لايهزمهُ سوى الغناء !!! وهل ننكرُ العلاقةَ الجميلةَ بين الكردي والغناء؟ وهو من غنَّى للثورةِ في الجبالِ الصامدةِ ، وغَنَّى في تشييعِ الجثامين، وغَنَّى في الأعراس، وغنتْ الأمهاتُ أشجانَ الرثائيات، وغنينَ وهنَ يُهدهدنَ الرُضَّعَ في المهدِ ، فهل أجملُ من الموتِ في حضرةِ أغنيةٍ تتشابكُ الأيدي في حلقةٍ للترنمِ بها . 
ويموتُ آخرٌ على حدودٍ يعرفُ ماهي فاعلةٌ بهِ، ويمضي مبتسماً بعد أن أطلقَ الغرابَ الأسودَ والذي يرمزُ في الموروث  العامِ إلى التشاؤم، ليمزقَ الغرابُ الفجرَ فتتضاءلُ الحياةُ في عيني جكو، وبتدويرٍ عكسي يحاولُ استعادةَ معطفه المعلقِ بينَ النجوم .
لم تكنْ نهايةُ جكو ولا نهايةُ رمو العابثُ المخمورُ بين صمتِ القبور، ولانهاية آرنينا مؤدلجةً أو جاهزةً أو قدريةً، بل تماشتْ مع وضعهم النفسي وتأثير الظروفِ وتداخلِ افكارهم .
لم تقدمْ الروايةُ حلولاً سحريةً ومصطنعةً، فالايديولوجيات مازالتْ تتضاربُ والحدودُ مازالتْ ملوثةٌ بالدمعِ والدمِ والشهداء مازالوا يُلفونَ بالإعلامِ، والأهالي لايبكون جهراً لقدسيةِ المشهدِ، بل يتمزقون بغصاتهم ليلاً ،
صراعٌ بين الأيديولوجية والوجع النفسي، وقراءة المشهد وانعكاساته الجغرافية، ولكن حبوكر وقفتْ على الحيادِ لتقول : السلبيةُ اللامتناهيةُ هي الملاذُ، لأنها تزيدُ جريانَ دمِ الحياةِ، وتجعلنا نتغذى من كلِ المشاربِ، نعتنقُ كلَ الأفكارِ ثم نجلسُ بهدوءٍ، ونفرزَ فوضى أفكارنا بينما مركبُ الحياةِ يسيرُ .

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.66
تصويتات: 6


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات