القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: الثعلب أو ابن آوى

 
الجمعة 28 اب 2020


إبراهيم محمود

قَدِم إلى مدينتنا رجال ملثَّمون، بالكاد تظهر عيونهم، إنما كانت عيوناً دائرية غائرة، ولا تخفي بريقاً ينبعث من سطحها يحُول دون رؤيتها تماماً، وفي صحبتهم حيوانان مخالفان للمعهود، وهما ثعلب وابن آوى، إذ لا أحد يستطيع التأكيد على جواز مصاحبة مثل هذين الحيوانين للبشر، بالعكس إنهما ينفران من البشر، عدا عن ذلك، ماذا يفعل حيوانان كهذين مع هؤلاء الرجال وهم بلباس يغطي كامل أجسامهم؟ ثم كيف لرجال كهؤلاء أن يصطحبوا معهم مثل هذين الحيوانين، لماذا هما بالذات وليس غيرهما مثلاً؟ أكثر من ذلك، كانا يتقدمانهم، كما لو أنهما يعرفان الطريق، ودون أن يلتفتا يميناً أو يساراً، أو يظهرا من الحركات التي يعرَف بها الحيوان في الحالة هذه: دوام النظر في الاتجاهات كافة، مد الخطم إلى الأمام ومن ثم رفْعه، وتثبيته حيث الشم موقع متقدم استطلاعي وهو يتلقى روائح لكائنات في المكان، نشداناً للتكيف طبعاً .


وبما أن هذين الحيوانين صغيران، ويشاهَدان في الجوار كثيراً، وليس فيهما ما يخيف، فقد جذبا فضول كل من رأوا الرجال، ودوام النظر فيهما خصوصاً، وسط ابتسامات تنمّ عن متعة بصرية ونفسية بالتالي، إنما دون التخلي عن استغراب يتركز على الصلة بين هؤلاء الرجال وكانوا أربعة، وكل من الثعلب وابن آوى وحركاتهما اللافتة. نعم، كانا حيوانين عاديين، يعني " ثعلب وابن آوى " إنما مع ملاحظة أساسية، لا بد أن توضَع في السياق، وهي في ثلاث علامات فارقة: فم طولاني أكثر من المألوف، بحيث يبرز الشدقان أكثر قابلية لفتح الفتح هذا بزاوية كاملة تقريباً، وأذنان طويلتان أكثر من المتعارف عليه بالمقابل في أجناس كل منهما، وهناك الذيل الطويل والملفوف إلى الأعلى من الخلف، حيث يسهل رؤية ما يشبه الحلقة التي إدخال قبضة يد فيها دون أن تلمس أي جانب فيها، وهي بجمال وبري طويل وغامض.
كما لو أن الرجال أولئك كانوا يعرفون المدينة من أولها إلى آخرها، وهما يقطعون شوارعها، وينعطفون فيها ذات اليمين تارة، وذات الشمال تارة أخرى، وفي بعض الحالات يعبرون عدة شوارع في المسار نفسه، وفي الحالات جميعاً، كان الثعلب وابن آوى يتقدمانهم دون أي توقف، وهو ما يثير الدهشة .
كان السؤال الرئيس المطروح هنا وهناك: إلى أين يمضون، وهم بخطواتهم الموزونة والمتسارعة وصحبة الحيوانين ؟!
كان هناك من ينتظرهما، كما هو مقدَّر، إنه رجل معروف في المدينة، ببيته الكبير، وحديقته الكبيرة، وهي بأرضيتها العشبية، لكن الذي يتميَّز به كذلك، هو أنه خبير بأمور الحيوانات، حيث قضى شطراً من عمره في البرّية، ولديه معرفة عملية يعلَم بأمرها من في الجوار، بسلوكيات حيوانات كثيرة، الكبيرة منها والصغيرة.
عند هذه النقطة، قدَّر من رأوهم متوجهين إلى ذلك البيت، أن هؤلاء الرجال لا بد أنهم ماضون إلى صاحب البيت لأمر حيواني في الصميم، وليس من أمر آخر، وهم يربطون بين الرجل الخبير بسلوكيات الحيوان، وذينك الحيوانين. هكذا خمَّنوا من واقع تجربتهم اليومية طبعاً .
وإثر هذا الربْط توقف فضول الناس، وقد انصرفوا إلى أعمالهم اليومية المعتادة، باستثناء نسبة معلومة لم تكف عن السؤال عما يجري، وما سيجري، سوى أنه، وبعد أيام معدودات، تناهى إلى أهل المدينة ذلك المستجد ليس كما توقعوه، فالموضوع حيوانيّ بحت هذه المرة !
فالذين أريدَ منهم أن يحضروا اجتماعاً أهلياً في الحديقة، وهم محل تقدير وحفاوة، بينما كان الثعلب وابن يقعيان على مؤخراتهما، كما لو أنهما يقتعدان كرسيين مريحين للغاية. لا بد أنهما كانا يتلذذان بنداوة عشب الحديقة الطويل، وهو يلامس مؤخرتهما، حيث امتد الذيلان على طولهما ليحصل تناغم بين خضرة العشب ورمادية الذَّيل، وكانت أعينهما تديمان النظر في الحضور متنقلة من الواحد إلى الآخر، كما لو أنها كانت تتابع كل حركة للحضور.
أشار أحد الرجال الأربعة وهو ينظر في الحضور، وبعد كلمة ترحيب من صاحب البيت بالحضور وبالرجال بوصفهم ضيوفه، وأن هناك ما يهمهم جميعاً في قدومهم، وهم من سيوضحون لهم المهمة هذه، أشار إلى الحيوانين وهو يمد يده على طولها، ثم مسح بنظرة عجلى منه وجوه الحضور وهم يقتعدون أرضية الحديقة، في رقعة مرتفعة تسمح لهم برؤيتهم ورؤية الحيوانين معاً:
لا بد أنكم ترونهما !
لم يكن قوله سؤالاً، إنما لإقرار واقعة وتأكيدها.
صدرت همهمة من الحضور، دالة على ما فاه به الرجل الواقف ضمن مسافة تسمح برؤيته وهو من معه الرجال الآخرين والحيوانين معاً.
والمقترح الآن، وقد يصدمكم المقترح هذا، إنما لا تستعجلوا، المقترح هو أن تختاروا بين الثعلب وابن آوى !
ارتفعت الهمهمة من داخل الحضور، وهم ينظرون إلى بعضهم بعضاً، وقدَّروا أن في الموضوع عملية بيع وشراء.
كيف نختار ؟
صدر صوت من أحدهم، بصيغة استفسار.
لماذا نختار، ماذا نفعل يالثعلب أو ابن آوى ؟
قدّر الرجل المتكلم نيابة عن رفاقه، وكذلك هؤلاء، وحتى صاحب البيت الذي ابتسم من موقعه القريب منهم، أن هناك ما ينبغي توضيحه، أكثر مما هو مألوف .
إنه أمر ، هذه المرة، ولمصلحتكم !
في اللحظة هذه تملَّك الحضور شعور آخر، فشدهم الفضول إلى مصدر هذا الأمر، وماذا وراءه، مع توثب مرفق به:
إنه أمر من الدب العظيم!
الدب العظيم! رددها الحضور .
أحدهم طرح سؤالاً ناسب الجميع:
أي دب عظيم، وماذا يجري، هل تمثّلون علينا؟ هل هناك من يصورنا؟
ابتسم الرجال الأربع، وحتى صاحب البيت، سوى أن لا أحد رأى أياً منهم وهو يبتسم لأنهم ملثمون، وهو ما كان يزيد في فضول الحضور، وما إذا كان وراء اللثام من شيء مريب أو غريب، كأن يكون السبب عاهة معينة مثلاً.
سأوجز الكلام:
عليكم أن تختاروا بين الثعلب وابن آوى، ليحكمكم !
قالها رجل آخر من الرجال الأربعة، وهو يوجه يده صوب الحيوانين !
ساد الحضور هرج ومرج.
يحكمنا أحدهما، وبخيار منّا؟ وهل انتهى البشر ليحكمنا حيوان، وحيوان كأحد هذين ؟
قالها أحد الحضور ساخراً، ومنزعجاً، كما أفصحت عن ذلك ملامح وجهه .
تقبّل الرجال قوله دون أي انزعاج.
أنتم لم تجربوا حكم الحيوان منذ زمان طويل، ولا تستهينوا بقوى الحيوان، لا تستهينوا بالدب العظيم الذي وفِدنا من قبله إليكم، وجئنا صحبة كل من الثعلب وابن آوى، ونحن نمشي وراءهما، فلنا خبرة بالحيوانات، وهذه الخبرة هي التي قادتنا إليكم، ولمصلحتكم. لا تقولوا في أي حيوان، كما هو متداول بينكم عنه، جرّبوا التعامل معه عن قرب. أنتم اعتدتم على الحكِم على الحيوان، كما هو حكمكم على أمور كثيرة ومفصلية في حياتكم، دون رويَّة، مقلدين من هم قبلكم، دون أن تدخلوا في عملية الحكم العملي، والأخذ بالأشياء من خلال معلومات سابقة، أو أحجامها، فثمة خدَع كثيرة هنا، أما عن هذين، فلم يسبق لأحد أن تعامل مع أي منهما، كما هما في الواقع طبعاً، وكما علَّمَتنا خبرتنا، لا بد أنكم تعرفون الكثير عنهما، في الحكايات ومن واقع التجربة الضيقة، أما نحن فعلى أرض الواقع ولزمن طويل،  فجرّبوا ولن تندموا، سوف تشعرون بمتعة التغيير ونعمته، ولن تندموا، وعندما ننقل إليكم تعليمات الدب العظيم، وكما هي خبراته الواسعة البرّية والأهلية، فلأننا نعرف حقيقة ما أنتم عليه،  ونقدّر ردودكم السلبية والرافضة بداية. وهذه مشكلة، وهي أنكم تحكمون على الأمور من الخارج، كما قلنا، أو كما هو منتشر في وسطكم، وهذا خطأ كبير لا تنتبهون إليه. ارجعوا إلى بيوتكم وتداولوا الموضوع فيما بينكم، فهناك الوقت الكافي، إنما حاولوا التفكير متحررين من أفكاركم السابقة، وسننتظركم هنا، ولقاؤنا بعد أسبوع في هذا المكان نفسه، وسيكون هناك آخرون، للبت في الموضوع .
قالها رجل آخر من بين الأربعة، وبدا أن أصواتهم متشابهة، وبالنبرة والخشونة ذاتها، وحتى حركاتهم بدت متشابهة، كما لو أنهم خضعوا لتدريب طويل، ليكون أي منهم كسواه، في طريقة الكلام، وفي الحركة، وحتى التزام الهدوء والصمت .
خلال الأسبوع المعطى للحاضرين، علِمت المدينة بكاملها عما جرى، وسادها هرج ومرج، وسجال، وتجاذب آراء، بشكل غير معهود، كيف لا، والمدينة عن بكرة أبيها قد سمعت بالجاري، وعليها أن تقرّر.
من قالوا، وما أكثرهم: كيف لنا أن نأتمر بأمر الثعالب، أن نحتكم إليها في حل الأمور وربطها؟ ثم ماذا يعني أن نكون مثلها؟ ماذا يعني أننا سنشهد عهداً لا سابقة له ؟
هناك من تبادلوا الضحكات، وكأنهم على وعي بحقيقة ما ستؤول إليه أوضاعهم:
أن نكون مثل الثعالب، يعني أن نساءنا سيكنّ ثعلبيات، وأن أولادنا سيكونون في مقام الهجارس: جمع هجرس، ولَد الثعلب "، ويعني أننا سنتصرف كالثعالب في سلوكها وحركاتها.
-يعني أننا سننظر إلى الآخرين كما لو أنهم حيوانات أكبر منا، أو أنهم دجاجات يسيل لعابنا لرؤيتها ؟!
تبادلوا الضحكات، لكنهم اختلفوا فيما بينهم.
هناك من استحلى الفكرة. لماذا لا؟ أليس ما قاله أحد الرجال عن أننا نتصرف تصرف من كانوا قبلنا، وهم تصرفوا تصرف من كانوا قبلنا، أي من تقليد إلى تقليد، فلماذا لانتغير، ونجرّبها. إنما أن نكون كالثعالب ؟
فكرة لم تهضَم بدايةً، لكنها وجدت من هضمها واستحوذت على كامل قواه النفسية والعقلية .
وآخرون قارنوا بين الثعلب وابن آوى، ومن ذهبوا مذهب بنات آوى، مشدداً على أن بنات أوى أكثر انتشاراً، ويسهل عليها الوصول إلى ما تشتهي من وراء صغْر حجمها، ومقدرتها في تحقيق المنشود .
رغم أن الأخيرين كرروا مثل من سبقوهم بخصوص متتاليات الآخرين بالثعلبة " أن يكونوا مثل الثعالب " وأن يحتكموا إلى الثعلب الأكبر فيهم، وهؤلاء إلى الدب الأكبر، وهكذا، لتكون نساء الأخيرين بدورهم من صنف إناث بنات آوى، وأولادنا مثل فراعلها " جمع فرعل، ولد ابن آوى "، وستكون لنا تصرفاتها...
ليفضل البعض ابن آوى على الثعلب، رغم يقينه الداخلي أن الثعلب أفضل في الخيار، لكن عامل العناد البشري له دوره الكبير هنا، وأصر طرف ثالث على البقاء متبشثاً بما هو عليه، مهما كانت النتائج .
خلال فترة ليست بالطويلة انقسمت المدينة بين من اختاروا الثعلب، ومن اختاروا ابن آوى، ومن بقوا على حياد، ومن آثروا الاستمرار على من هم عليه .
كان من السهل معرفة من اختاروا الثعلب، من خلال حركاتهم وتصرفاتهم، وتعاملهم مع بعضهم بعضاً ومع الآخرين، لقد نجحوا في الاختبار، إلى درجة أن ليل مدينتنا كان يشهد سماع الضُّباح " صوت الثعلب " في الليل بصورة فردية، أو جماعية، وبشكل متواصل أو متقطع، ومن قوة الصوت، كان من السهل تقدير نوعية القوة أو الحضور في المكان مصدر الصوت، وهكذا الحال بالنسبة لعواء من اختاروا ابن آوى، ليظهروا تصرفاتهم هذه في النهار، إنما وهم يعيشون في داخلوهم بين كونهم ثعالبيين أو بنات آويين وكونهم بشراً، وما يسببه الصراع هذا من إيلام وتوتر لهم، حيث ينعكس ذلك على أشكال معاملاتهم حتى فيما بينهم.
ولتعيش المدينة عهداً جديداً، وألواناً جديدة من التجاذبات والأهواء والميول وخلافها.
أما بالنسبة للرجال الأربعة، فقد خرجوا من المدينة، وقد أخذوا فكرة كاملة عنها، قاصدين دبَّهم العظيم، كما يُسمّونه، ليرفعوا إليه تقريراً مفصَّلاً عما قاموا به، وما آلت إليه أوضاع المدينة.
حين اطَّلع الدب العظيم على التقرير، وقرأه برويَّة، ولأكثر من مرة، كي يحيط بكل شيء علماً، ابتسم وقال:
الآن أستطيع أن أنام نوم قرير العين هانيها !

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.4
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات