القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: درب التبانة .. قصة من مدينتي

 
الخميس 30 نيسان 2020


هيثم هورو 

  -1-
جعفر هو ذاك الفتى اليتيم من احدى قرى عفرين ، عانى التشرد والفقر والحرمان ، وكان كل احلامه بأن يأكل يوماً خبزاً من القمح ، بدلاً من خبز الشعير والذرة ، نتيجة الفقر المدقع .
دفع هذه المعاناه جعفر ، بأن يعمل ليسد جوعه ، فعمل راعياً للأبقار لدى اهل قريته ، لقاء اشباع بطنه،
وبالإضافة إلى ذلك كان يحصل على كيل من القمح 
عن كل رأس بقرة من صاحبها في نهاية العام .


كان جعفر يرعى ويخدم الأبقار ، من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس ، على مدار السنة لكي يأكل خبز القمح  ، ويقضي على الجوع الكافر ، الذي جعل منه عاملاً نشيطاً .
قضى جعفر سنوات في العمل بجد واخلاص ، ونال احترام وحب معظم أهالي القرية ، ولا سيما كان سيدو معجباً بإخلاصه .
قرّر سيدو بتزويجه بإحدى بناته،  حيث قام اولاً : العم الجديد لصهره الفقير ، ببناء غرفة ذات مساحة واسعة ، لكن كان سقفها من الأعمدة الخشبية المألوفة حينذاك . 
                                                                   
-2-
لم يمر زمناً طويلاً ، وجرت حفلة العرس بمشاركة فعالة من أهالي القرية حباً واحتراماً بجعغرهم الفقير المخلص ، بدأ جعفر بحياة جديدة شبه مستورة مع زوجته ، حيث قام بتربية الخراف الصغيرة الى جانب مهنته القديمة ببيعها في بازار عفرين ، لم يمضي فترة طويلة ، بدأت جينات الطمع والبخل تنتعش في دمه يوماً بعد يوم ، ثم ظهرت معالمها جيداً في أوساط قريته ، حيث كان يلبس سروالاً لسنوات طويلة حتى وإن كان سروالاً مرقعاً بقماش غير مناسب ، وهكذا أصبح نمط حياته في كل الأمور المعيشية .
وبعد مرور سنوات أصبح جعفر اباً للعديد من الاولاد ،
ومن بينهم كان الفتى ياسين معروفاً بحبه للعلم ، حيث نال الشهادة الثانوية العامة في مدينة عفرين، 
إلا أن والده وقف حاجزاً منيعاً امام مواصلة ابنه في الدراسة ، وذلك خشية من مصاريف الجامعة ، ثم أصرّ على ابنه التواق للعلم بأن يشاركه في رعاية الأبقار وتجارة الخرفان كسباً للمال .
-3-
فقد ياسين امله في الدراسة ، ولم يعد يتحمل وزر وطبيعة عمله الشاق مع ابيه ، حيث تقدم لإحدى دوائر الدولة للعمل فيها ، تم تعينه مباشرةً واصبح يتقاضى راتبه شهرياً وهو في غاية السعادة ، ولا سيما انه تحرر من ظلم وجور ابيه الراعي . 
لكن صار هنا مدمناً على التدخين من سجائر المراجعين وضيافتهم له ، لتسير معاملتهم فقط؟!!
فاعندما كان يعود إلى بيته يشعر بأنه يحتاج إلى التدخين ، ولم يزوره احداً حتى يشحد منه سيجارة، 
لذا اضطر إلى شراء علبة السجائر الرخيصة الثمن ، ولم يعد مستلذاً بها ، لانه لمس بأن شراء السجائر يجلب له أزمة مالية خانقة ، وهنا ولدت فكرة عبقرية في رأسه ، وهي جمع عقائب السجائر أثناء العمل دون أن ينتبه له احداً ، وثم يعمل على استخراج التبغ المعفن منها ويحشوه في غليونه الذي قدم له احد المراجعين هدية لتسهيل سير معاملته ، وهكذا كانت تدوم علاقته مع صديقه التدخين !.
وفي احد الايام اقترح احد الموظفين في الدائرة على زملائه ان يفطروا ، في ذلك اليوم الأكلة الشعبية ( فول ) لكن من جيوب مشتركة والكل وافق على ذلك إلا ان السيد ياسين اعتذر عن المشاركة بحجة انه فطر تواً .
-4-
نعم تناول زملاء ياسين طعام الفطور ( فول مع الطحينة)  بعد ذلك انصرف كل واحد منهم إلى مكتبه وتاركين خلفهم صحونهم الغير فارغة للنهاية .
اما في الحقيقة كان ياسين يراقب زملائه عن كثب وهو يتضور جوعاً ، انتهز الفرصة السانحة ، فتسلل خلسةً الى المطبخ واكل بسرعة البرق بقايا الفول هكذا استمر ياسين بتصرفاته الخسيسة وحيث اقتصد مالاً كثيراً من راتبه ومن طرق الرشوات المدفوعة خلسةً ، وخلال سنتين اشترى له طابقاً متواضعاً في حي الأشرفية بعفرين .
ثم بدأ بالبحث عن فتاة رخيصة المهر ، الى ان تعلقت بشباكه ، السيدة فاطمة وهي من عائلة كريمة وطيبة الاخلاق ، ومنذ بداية حياتهما الزوجية صرح ياسين مخادعاً لزوجته بان راتبه ضئيل جداً ، وعليها ان لا تبذر كثيراً في الامور المنزلية والمظهر الخارجي ، رغم أنه أصبح من احد الاثرياء في المدينة .

-5-
اما فاطمة الطيبة اقتنعت عما قاله زوجها الطماع ، فأصبحت هي الأخرى تحسب له ألف حساب حين تطلب شيئاً من الحاجيات المنزلية والشخصية لتثبت لزوجها بأنها زوجة مطيعة وتشارك رفيق العمر في السراء والضراء وعلى ذلك الشكل عاشوا حياتهما ، الى ان أنجبت فاطمة طفلها الأول ، لكن لم تكن فاطمة غبية وساذجة فاستطاعت من خلال سنة، ان تكشف كل خفايا زوجها المخادع ومنها على سبيل المثال عندما كان ياسين يذهب إلى بازار عفرين أو سوق الهال ، كان يبحث عن الخضار التالفة التي وضعها البائع جانباً ليلقيها في حاوية القمامة ، يأخذ

 ياسين تلك الخضار دون أن يؤنبه الضمير ومراعاة القواعد الصحية ، والأهم بالنسبة له أن لا يمدّ يدهُ الى جيبه ، ثم سأل ياسين السمان ؟ فيما لو يوجد لديه بيض مكسور ليشتريه بنصف القيمة اجابه السمان : بنظرات مشمئزة وأعطاه بيضتين دون مقابل ، لكن كان عيني ياسين لبعض اسطل اللبن ثم سأل السمان ؟ وهل هذه الاسطل فارغة فسأله السمان لماذا ؟ أجاب ياسين : دون حياء بأنه هناك بقايا اللبن عالقة في قاعاتها لاصنع منها عيران واعيدها إليك حالاً رفض السمان طلب ياسين وهو ينظر إليه بإزدراء لأنه يعلم تماماً ان هذا الشحاد هو غني خسيس لا مثيل له بين الغجر...
-6-
وفي احد الايام واجهة فاطمة زوجها قائلة له : بلطف زوجي العزيز إنك نسيت بالمطلق بأننا ننتمي إلى فصيلة البشر وانت منذ سنة تجلب لنا خضروات عفنة وهي ليست صالحة حتى للمواشي و بالإضافة إلى ذلك تمنعني من الخروج لشراء ما يلزمني آثار هذا الكلام غضب ياسين وهاج كالثور وهو ينفث سيجارته ذات الرائحة النتنة التي لمّ عقابها من نفاضات دائرة عمله ، ويطلق الدخان من انفه كالبخار الحار على وجه زوجته قائلاً لها : كلمات نابية ومهينة جداً ، محذراً إياها لعدم تكرار ماتقولها له : وإلا .....
دخلت فاطمة مع طفلها الصغير إلى غرفتها وبدأت تذرف الدموع كالمطر على طفلها الرضيع ، لا تستطيع الخروج من البيت بوجود ياسين الذي أصبح كالكلب المسعور . وفي اليوم التالي ذهب ياسين إلى وظيفته ، استغلت فاطمة غياب ذلك الحيوان الذي يشبه الانسان ثم حملت طفلها وعادت إلى بيت ابيها. 
-7-
وهنا بدأت تسرد قصص شبه خيالية عن زوجها لوالدها ، وعن سوء معاملته وبعض صفاته السيئة جداً ، كالكذب والبخل الذي يصعب توصيفه بجمل قصيرة وانه لا يعترف مطلقاً بأن المرأة هي انسانة كسائر البشر ، فحسب بل يعتبرها حيواناً أليفاً من الدرجة الثانية بالإضافة إلى ذلك تبين لديّ بأنه منافق دون منازع وهو ادعى بأنه من أفقر الفقراء وراتبه منخفض جداً ليبرر لي عن تسوله ، لكن كشفت في الآونة الأخيرة عن كل أسراره وممتلكاته ، وحتى من راتبه الشهري و بإختصار يا ابي انه انسان سافل جداً ولذا ارجوا ان لا تعترضني على طلب الطلاق منه مباشرةً .

كان الوالد يصغي لأبنتها في غاية المرارة وقلبه يحترق ألماً ، لكنه بالرغم من ذلك أردف لإبنتها قائلاً : ابنتي العزيزة ! لا جدوى من الطلاق فهذا يجلب لنا العار لذلك تحلي بالصبر مجدداً وانا بدوري سأقابل ياسين وارشده الى الطريق الصحيح والمعاملة الحسنة معك ، وأن يكون كريماً في البيت و لذلك تريثي يا ابنتي ان بعد الضيق فرج ، وما عليك ان لا تعترضين أمر الله ، فهذا هو قدرك ومشيئة الله .
-8-
لم تكسر فاطمة خاطر ابيها ، وعادت إلى ياسين ثانيةً  ، ثم عاشت معه مرغمة وحياتها لم تختلف عن ماضيها التعيس والتزاماً بإرشادات والدها ، وبقدرها المكتوب على جبينها .
أنجبت فاطمة خلال سنوات اطفالاً متعددة ، ترعرعوا في بيئة ملوثة اجتماعياً وتمكنوا رغم ذلك الانتساب إلى كليات مختلفة في جامعة حلب تزامناً مع اعمالهم في مطاعم مختلفة ، لكن ازدادت حياتهم بلّةً حين بدأت الثورة في سورية وبسبب الحرب التي دارت رحاها في مدينة عفرين مدينة الزيتون ، فرّ قسم من أسرة فاطمة إلى حلب ، والقسم الآخر اولادها إلى تركيا .
وبقي ياسين وحيداً في مدينة عفرين ، يحرس اثاث منزله خشيةً من النهب والسرقة ، وتجنباً من مسؤولية عبء العائلة في المهجر ، لم تمضي فترة طويلة ، استغل ياسين فرصة غياب زوجته المهاجرة ، حيث التقط فتاة مسكينة العقل وهي من جيل ابنته ، وحين طلب يدها اغرها بتسجيل المنزل الذي سيعيشون فيه على اسمها وذلك لقاء مهرها، تزوج ياسين بالثانية، وحالاً علمت فاطمة بهذا الخبر المشؤوم ، ثم أسرعت بالعودة إلى مدينة عفرين رغم خطورة الطريق ، لم تكن عبء المؤامرة الدنيئة سهلة الهضم بالنسبة لها ، ولا سيما انها تحملت وزر الحرب وعواقبها الوخيمة واللانسانية .
-9-
اضطر ياسين في اسكان فاطمة واولادها بمنزل آخر عائداً له ، الذي ابتاعه سراً ، ولكن دون رعايتها وأطفالها الباقون .
عاشت فاطمة حياة لا تحسد عليها ، بالرغم من الدعم المادي الذي تلقاها من احد ابناءها المهاجر إلى تركيا .
ولم تمضي سنة و نصف من المصيبة التي حلت على حياة فاطمة ، وفي إحدى الليالي الثلجية بينما كانت فاطمة نائمة تحلم بأيام سعيدة ، دخل عزرائيل إلى غرفتها وسرق روحها البريئة ، وتحررت من كابوس ذلك الشيطان اللعين أبدياً .
شعرت ابنتها بأن والدتها استغرقت في النوم طويلاً وهذا ليس من طبائعها، ثم دخلت إلى غرفتها فرأتها جثةً هامدةً ، حينها أطلقت صرخة مدوية ونادت ماما  ! ماما  ! والدموع تنهمر من مآقيها كالمطر الشتوي .
لم يحضر ياسين فور علمه من ابنته بل انتظر إلى اليوم التالي ، ثم ذهب إلى منزل شقيق المرحومة ، 
وأخبره بأن فاطمة قد فارقت الحياة ، ولذلك عليكم اتخاذ إجراءات الدفن ونصب خيمة العزاء امام منزلكم ، لأنها أختكم وانتم مسؤولون عنها طبعاً هذا الكلام مكان الدهشة والاستغراب لدى كل إخوة 
-10-
فاطمة ومن دون مناقشة مع هذا الخسيس الخبيث، 
سارعوا حالاً في تشييع جنازة شقيقتهم في مقبرة قريتهم ، ثم عادوا إلى مدينتهم ، حيث ساعدوا هنا جيرانهم بنصب خيمة العزاء واحضروا كل المستلزمات الضرورية للخيمة وذلك تعبيراً عن مشاعرهم إزاء الجار .
اما ياسين توارى عن الأنظار ، وحتى لم يذهب مع موكب الجنازة هرباً من تسديد أجور السيارات ، وفي اليوم التالي تفضّل وجلس تحت الخيمة كضيف شرف ، وثم يدخن و يشرب القهوة من الضيافة دون خجل وحياء ..
داوم ياسين ثلاثة أيام متتالية بهذا الشكل في خيمة العزاء ، ثم غادرها دون أن يواسي بناته، فهل يوجد اتعس من هذا الرجل القذر وفاقد الضمير والوجدان؟ 
سؤال أطرحه طوال عمري؟!!! 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات