القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

نزهة في جم شرف

 
السبت 28 نيسان 2007


محمد قاسم (ابن الجزيرة)

لم يكن مقبولا الاعتذار عن طلب المشاركة في نزهة مع نخبة من المثقفين الكورد.. بل كانت فرصة طيبة للتعارف مع عدد منهم، وتبادل بعض الأفكار في إطار المناخ الثقافي في البلاد عموما، وبعض الأفكار ذات الخصوصية حول قضايا محددة منها.فكان القبول بالدعوة التي جاءتني عبر الهاتف من أحدهم بالرغبة في رحلة ربيعية نقضي فيها معا نزهة طيبة..


وكان الاتفاق على المكان بعد بعض تردد.. فكان الموعد الأول قرية (حياكة) ولكن الموعد النهائي كان (جم شرف) بعد التأكد من عدم صلاحية (حياكة) لجهة الطريق وشروط النزهة.
انطلقنا من (حياكة) - التي التقينا فيها مع بعضنا البعض - نحو (جم شرف) والتي وجدنا كثافة في المنتزهين فيها، مما اضطرنا إلى النزول إلى منطقة قريبة من حافة نهر ( دجلة) العظيم، أو كما يرد في بعض الأغاني العراقية ((دجلة الخير)) وكانت قليلة الأشجار، ولكنها كانت لطيفة في الخضرة واستواء مكان التخييم فيها.
كان الجو – في العموم لطيفا، مع ميل نحو بعض الحرارة غير المحرجة.
نصبت خيمة تضم حوائج النزهة.. من خضرة ، وفاكهة، ومياه، ومشروبات مختلفة..
صفت الكراسي.. ووضعت طاولة مستديرة في الوسط، تحمل بعض البذور والفواكه والمشاريب..
وبدأت الحركة بالتعرف على بعض. (كورد مهتمون بالثقافة، من مدن مختلفة في الجزيرة السورية ، الحسكة -عامودة- القامشلي-ديرك..
أكاديميون، مدرسون، كتاب ، شعراء، محامون...الخ.
كان الجميع مسرورون للمكان وجماله.. حيث الطبيعة الخضراء.. ونهر دجلة -الفاصل ظلما بين أرض ينبغي لها أن تكون متصلة بدون حواجز بين سكانها -  وقد كان كذلك طوال قرون عديدة منذ فجر الإسلام، بل وقبله..! 
 انبثق عن هذا الشعور تداعيات مؤلمة.. فبدلا من أن يتواصل البشر.. ويمحوا الحواجز والحدود فيما بينهم، وصولا إلى عولمة (أو عالمية) تخف فيها الحواجز، وتبرز الخواص المشتركة لبني البشر- الذي ينحدرون جميعا من آدم وحواء-كما هو مفترض-. 
 إخوة في الجذور والأصول.. وأقرباء وأنسباء.. في الفروع والأغصان...ولكن -كما يبدو- جبل الإنسان على النسيان، خاصة نسيان المواجع والآلام ليستمر في حياة ممكنة.. فسرعان ما انتقل التداعي إلى جمال الطبيعة وانعكاساته في النفس الشفافة.. فسرت فيها لمحات لطيفة من بعض وجوه الحياة ، وانبثاقات شعرية.. أو نكات مضحكة.. أو سجالات مختلفة.. تأخذ أشكالا وصيغا مختلفة. منها ما يضبطه منطق.. ومنها ما يتفلت عنه.. ومنها ما يزرع السرور في النفس.. ومنها ما يقبض القلب والنفس..! ربما هذه هي طبيعة الحياة ، الضاحكة حينا والباكية أحيانا، المنفردة تارة والمكفهرة تارة أخرى...!
وتداعى البعض إلى التحضير للغداء بحيوية وسخاء يحمدون عليها..ربما كان (رزو) أكثرهم في هذا السخاء.
 ارتفع دخان نار شواء اللحم مع رائحته الزكية التي تنعش الأنوف وتفتح الشهية..
بطريقة فيها بعض فوضى –ربما- وبعض جاذبية في الوقت نفسه..تقاطر الأفراد على سحب اللحم المشوي – شقفا وكبابا- باستخدام الخبز لصنع السندويتش اللذيذ بعد بعض جوع. وقد قاربت الساعة -حينها- الواحدة وما بعد. 
 كان ذلك بعد سير طويل من أماكن السكنى إلى (جم شرف) ذات المناظر البديعة (شجر وارف الظل..خضرة ممتدة تبهج النظر وتنعش النفس..ماء دجلة الجاري بحمرته الدالة على فيضان الثلوج من على جبال المنابع.. وجرف السيول والنهيرات للطمي من سهول ومرتفعات تغذي حوافها.. طبيعة تضريسية خلابة تتراوح بين مرتفع ومنخفض وسهول ممتدة ترسم خطوطا ومنحنيات موحية ..! 
 وكالنمل في حركة دائبة.. كانت السندويتشات تلف، والأسنان تقضمها بشهية واضحة، كما يلاحظ المرء..فالسندويتشة في يد.. وخيار أو بندورة أو الفليفلة الخضراء..في يد أخرى، وربما تناول البعض نوعا من المشروب المسكر، أو الكولا، أو الماء.. وربما أمسك البعض كأسا من الشاي ذي اللون الرائق والطعم الطيب والنكهة الخاصة ، فقد غلي على الفحم المهيأ للشواء على مهل.. وما ألذه.. الشاي المغلي على الفحم بهدوء يحلل مادة الشاي الأسود بما فيه من طعم ونكهة..!
وخلال الفترة نفسها كانت السجالات على قدم وساق .. يقطعها -أحايين كثيرة- تدخلات من هنا وهناك.. لإضفاء بعض الحبور أو الحيوية على الجو.. ولم يكن يخلو هذه التدخلات –أحيانا – من تجاوز بعض المطلوب من الأجواء المفترضة لجمع من المهتمين بالثقافة، وهم الشريحة التي تتخذ –شاءت أم أبت-موقعا اقتدائيا -إذا جاز التعبير- فهي تمثل نوعا من القدوة للغير بما ملكت من علم ومعرفة وأفق في التخيل وتصور الآتي من أحوال الحياة في جوانبها المختلفة. ولذا قيل عن الثقافة بأن البيئة المنتجة للأفكار والرؤى والنظريات.. بل القوانين أيضا، سواء في ميدان العلوم الطبيعية أو تلك الإنسانية الاجتماعية الأعقد، بسبب علاقتها بمعايير السلوك اجتماعيا وفرديا..
تذكرت في بعض المحطات قول شاعر يمدح خليفة:
الجد شيمته وفيه فكاهة * * * سجح ولا جد لمن لم يلعب
حاولت أن اتخذ من دلالة البيت بعض معيار لما يجري فوجدت أن التجاوز كان كبيرا أحيانا، حتى لقد يقلب البيت على عقب ويجعله:
فكاهة شيمته وفيه بعض جد * * * وكان الجد أولى أن يسودا
لست أدري -طبعا – هل المعيار الذي أملته هو صحيح أم.. لا .. ففي أنواع السلوك البشري تتعدد المعايير.. وفي صياغة المعايير السلوكية تختلف الرؤى.. ولكن بتقديري يبقى معيار ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار.
فالإنسان يتباهى بكونه الكائن الأرقى لسبب واحد هو حيازته عقلا.. ولولا ذلك فهو في التعريف الأرسطي: حيوان (يميزه النطق) ولا يخفى أن النطق هنا العقل..! فإذا حذفنا العقل ماذا يبقى سوى حيوان..؟!
ربما هذا المعيار ينبغي أن يعتمد ليس عند المهتم بالثقافة فقط، بل عند الإنسان ككل. ولذا فقد وجدت دائما في بيت الشاعر السابق (الجد شيمته وفيه سجح-ولا جد لمن لم يلعب) المعيار الذي ينبغي أن يكون في سلوك الإنسان.. ولا اعتقد أن الفكاهة يجب أن تنزلق إلى درجة أقل من الفكاهة السجح (الخفيفة على النفس دون التفريط بحالة الجد التي تميز فاعلية العقل) حتى لو كان الظرف نزهة أو رحلة..!
من الطبيعي أن يتجاوز المرء في الرحلات والنزهات بعضا من تجهمه.. ورسم خطوط الصرامة على جبهته. بل واستحضار ما في النفس من حيوية السرور والانشراح، ليخفف عن نفسه وطأة صرامة العمل اليومي الروتيني... ولكن من الطبيعي أيضا –كما أرى – أن يكون للتجاوز حدودا لا يتخطاه المرء. خاصة في ظروف وجود جمع كبير نسبيا. فهؤلاء أمزجة وقناعات مختلفة.. وإذا تجاوزت فئة حدا فهو على حساب مساحة حرية ومزاج وقناعات البعض الآخر..
لذا كلما زاد العدد وجب الانتباه إلى هذه الحالة (الواقع).
على كل لن ينسينا -ما قد أعتبرها ملاحظة من نوع ما- الجو المرح الذي قضيناه، وخفة الدم إلى درجة ما، لدى البعض، وروح الدعابة عند البعض الآخر..
كانت نزهة فيها لحظات دعابة ولحظات جد ولحظات سرور..انتهت إلى خير جو في الساعتين الأخيرتين، اللتين ساد الأجواء فيه، روح المودة.. ورغبة تقارب وانسجام..عبر عنها اعتذارات كان يمكن تحاشيها أساسا، حتى لا ينطبق القول على النتيجة: قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا - فما اعتذارك عن قول وقد قيلا
ويمكن القول: قد فعل ما فعل صوابا او دون صوا - فما اعتذارك عن فعل وقد فعلا
على كل حال: تكللت النزهة –في ختامها- بلحظات وداع مؤثرة، ترنو إلى يوم آخر أكثر تميزا وأكثر انضباطا، يجمع الجد إلى اللهو البريء، ويمزج بين برنامج عمل خفيف إلى وجبة غداء شهية، ورياضة نفسية وبدنية مفيدة..!
 




 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 1
تصويتات: 1


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات