القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: أنا وشجرة الصاعقة

 
الخميس 17 ايار 2018


 ابراهيم محمود

هذه ليست قصة سريالية، إنما واقعة حقيقية أردت نقل لحظة تأريخية لا تُنسى، عندما أوشكتْ صاعقة أن تأتي على شجرة البلوط التي أحتمي بها من مطر خفيف، وهي ذات جذع غليظ، كغيرها من مجمل الشجر غير المنتظم في المكان، بجوار  قرية " Dêra gijîk  " التي تقع شمالي دهوك مسافة " 40 كم " تقريباً، حيث اتفقنا نحن العاملون في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، أن نمضي إلى رقعة خضراء فيها يوم الثلاثاء " 15-5/ 2018 "، دون أن نعلَم بنوعية المفاجأة التي خبأتها لنا الطبيعة، أو أمّ  السوط السماوي: الصاعق من عل ٍ.
أتحدث هنا عن تلك اللحظة الغفل من التسمية، من التفكير فيها، بحيث لا يكون في مقدور الشعور أو الوعي النظر في حقيقتها، أو مجريات أحداثها، وكيف أنها، وهي في مقياس الثانية أحياناً، تستدعي شريطاً هائلاً وشديد التلون من الذكريات، وهو ما يفكَّر فيه بعد تجاوزها أو النجاة من ربقتها،والدخول في رحابة عمر جديد، كما يقال .


لقد كنت مأخوذاً بتجليات الربيع الكردستاني، بالشجر البلوطي الذي كان يتناثر في المكان كعقود طولانية لا تواري بدعتها أو فتنتها ، وعشب صاعد إلى أعلى، وكل ذلك كان يزيد في شهية النفس والسباحة الروحية في بهاء الطبيعة والخضرة المتألقة في المكان.
كانت أصواتنا تتصادى في المكان رغم التباعد النسبي، حيث كان الأصدقاء على مبعدة خمسين متراً وربما أقل مني، ورذاذ من المطر يدفع بنا، تحت مظلة غيمة شفافة إلى البحث عن ملاذ دون حساب لمتحولات الطبيعة.
صحيح أننا كنا نسمع بأصوات بروق من مسافات بعيدة نسبياً، لكننا كنت نتوقع انفراجاً في السماء لنتموضع بشكل أفضل في المكان، ويبدو أن حسابنا لم يكن دقيقاً، أو حسابي أنا بالذات.
في تلك الثانية التي ألمحت إليها، حيث الشجرة التي انتقلت منها محتمياً بأخرى تفصلها عنها مسافة ما دون الـ" 20 " متراً، شعرت بأن أرضاً تهتز، وما يشبه الوميض الهائل، وانقطاع التيار الكهربائي لوعيي، أو ما يشبه فقدان الوعي وانسلاخاً عن المكان بالذات: تلك كانت صاعقة ضربت سوطها الناري الشجرة المقابلة، لكن ضغطها الرهيب والمهيب زلزل المكان عموماً ضمن دائرة تعدت عشرات الأمتار وكنت الأقرب، توقعت في إثرها أنني أصبتُ بالصمم، حيث رائحة الشواط انتشرت في الرقعة الجغرافية تلك، جراء ملامسة الشجرة الرطبة، وقد أصبت والأصدقاء بالذهول، غير مصدقين لما جرى في الختام، أي وقد سلمنا من سطوة الشجرة الصاعقة، كما سمّيتها.
جمدت في المكان لبعض الوقت، وأنا أحاول العودة إلى الواقع، واندفعت لاشعورياً باتجاه الأصدقاء الذين كانوا يتابعون المشهد مثلي وهم ذهول، ذهول يترجم عدم تصديقنا لما حللنا فيه وعدم إصابتنا بأذى برقي، كما يُسمى .
كانت أنظارهم متجهة إلي، لقربي من المكان المصدوم بالذات، ربما لأنهم لم يصدقوا نجاتي أنا بالذات، وأنا أتجه إلى حيث هم مهرولاً ومصدوماً بهول الواقعة الرعدية بالذات، ليطمئن كل منا الآخر وهو سالم معافى .
لقد بقيت لبعض الوقت، وربما لساعات أعيش اللحظة الصاعقة، وتداعيات الحالة، والطمأنة المستمرة من قبل الأصدقاء علي، ولم يكن في مقدوري إخفاء الأثر النفسي لما جرى بالذات .
وإذا كان لي أن أصف الواقعة بدقة أكثر، فإن ذلك يحتاج إلى زمن طويل والكثير من الورق، وما عشته في عمر الثانية الزمنية في عمقها والصور التي تداعت كالشلال، وكأنها طرحت عمراً طويلاً، ومشاهد تداعت بدورها من أمكنة بعيدة، وبمستويات مختلفة، أو بإيقاعات مختلفة، وكيف أنها فاجأتني أنا نفسي بما لم أعشه سابقاً، وفي أي لحظة أخرى من عمري الزمني الطويل نسبياً، لعلها تجربة شاقولية ترجمت نفسها هي الأخرى في هيئة أخرى، وما هو خفي في حياتنا الواعية، وأفصحت عن جوانب غامضة، وما أكثرها وأوسعها وأعمقها، لا يحاط بها، ثانية هي تجربة عمر من نوع آخر، شدَّتني إلى عالم قار في الروح، وفي نسيجي العصبي، ربما تصيب المرء بالهلوسة أحياناً، لكن بالنسبة إلي، لم تكن هلوسة، إنما رد فعل نفسي، عصبي، عضوي، وجدتني منزوع القوة وإرادة التحكم بها" بالثانية المزلزلة تلك " مأخوذاً برهبتها، وما في ذلك من عجز، أستطيع القول، ودون أي ادعاء، بأنني لو حاولت الدخول في عملية توصيف لها لاحتجت إلى زمن طويل، كما أشرت، واستشعرت المزيد من النقص كلما سمّيت أشياء، وعبَّرت عن مشاعر وأحاسيس وتصورات.
ثانية من العمر، تجربة فذة من عمر غير محتسب، يوم مشهود له بفرادة حدث وصل ما بين الأرض والسماء، هي ما أردت التأريخ لها بإيجاز شديد، لأشكر المكان الذي خرجت منه حياً، وأخص بالذكر الشجرة التي أصابتها صاعقة، وأقصتني عنها بقدرة، وأختها الشجرة المقابلة لها وأنا ملاصق لها طبعاً، كما لو أن قوة ما لعبت دوراً إنقاذياً لنا جميعاً، وأنا بالذات، والأصدقاء الذين تصاحبنا معاً إلى المكان ذاك وغادرناه ونحن في وضعية آمنة.
دهوك، في 17-5/ 2018 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 6


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات