القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قراءة في كتاب: تراجيديا الضحك فلسفياً وسردياً.. عن كتاب ابراهيم محمود «تراجيديا الضحك» الصادر حديثاً

 
الخميس 15 كانون الأول 2016


نبيل سليمان

في قصة خلق العالم الفرعونية "الضحك هو الأس المكين". ويقول أحمد أبو زيد إن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن العالم خلق من الضحك؛ فالإله الأكبر حين أراد أن يخلق العالم، أطلق ضحكة قوية، فكانت أرجاء العالم السبعة. ثم أطلق ضحكة أخرى، فكان النور، وأطلق ضحكة ثالثة فكان الماء، وهكذا حتى خلق الروح من الضحكة السابعة.
من الكتّاب من لا يزال يولي الضحك عنايته– مثل كتاب "أدبنا الضاحك" لعبد الغني العطري وكتاب "الضحك" لنصر الدين البحرة... – فمن جديد تلك العناية، وربما من ذروتها، كتاب "تراجيديا الضحك" لإبراهيم محمود.


الضحك فلسفياً

بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة كتب هذا الباحث السوري الكردي اللاجئ في دهوك – العراق في جنسانية الفلسفة، أن الفلسفة في أصلها امرأة، وهي حواء متجددة. والفيلسوف إذ يضحك فإنما يفعل استجابة لبذرة حوائية. والفلسفة نفسها تغدو باعثة على الضحك لأنها هي الرحم الأكثر خصوبة.
يتدفق كتاب "تراجيديا الضحك" فيما هو الضحك فلسفياً، معجلاً إلى نفي أي صلة بينه وبين كتاب برغسون "الضحك" أو كتاب زكريا إبراهيم "سيكولوجية الفكاهة والضحك"، فصِلاته هي مع مدونة مختلفة، ومنها يظهر أن الضحك أبدي، وهو النفس العميقة للغة – بينما الصمت هو حلمها – وحضور كامل في عالم كامل، وتوقيع غير مفصح عنه على زمان ومكان معينين، كما هو إقصاء للموت وتتويج حياة، فأن يتوقف المرء عن كونه يضحك، يعني أن يموت. والضحك هو ما يضعنا في قلب الوجود إذ ينزع أقنعتنا، كما أنه في بنيته وجوهره طاقة وجود على مستوى كامل الوجود، وولادة لوجود غير مسبوق، وحضور كامل الذات في حضرة ذوات اخرى. إنه ما يحيل الموجود إلى الوجود، إنه سياسة جسدية، وعلاقة حيوية، وسلطة قائمة بين المرء ونفسه، وقيمة استقطاعية تتواجد كما يُعْرف بها بعيداً عن وجود النقيض. وتعميم الضحك على كل شيء هو تحرير له. وفي الضحك تأميم لمشاعية الإبداع ولنشاط الذهن، وفيه يلاحظ البشر بشريتهم ومدى قصورهم، وينتبهون إلى اختلافاتهم. وفيه إعادة للثقافة إلى حالة اللاشيء، فأن نضحك يعني أن نلغي اللغة، ونزيح الكوابيس والمفارقات المقوعدة لنأتي بكتابة جديدة وثقافة تسمح برؤية ما لم ير بعد.
يشد هذا النظر للضحك أزره بما سبق إليه فلسفياً وأبدع فيه آخرون، فإبراهيم محمود معني بالضحك الذي يتخلله الثقافي العميق، وليس ضحك قسمات الوجه "ولا اللصيق بالمفارقات، وليس الضحك بمفهومه الفيزيولوجي والطفلي"، فما يضحك ليس الكركرة، بل ما يفجر معرفة، ليكون الضحك فاتحة كل حداثة ممكنة، نابهاً وموحياً وتليداً وريادياً دوماً، وليس ضحكاً استهلاكياً.

فريدريك نيتشه (1844 – 1900 )

هنا، لنيتشه النصيب الأكبر، وهو من سخر ممن يذمون الضحك، فالآلهة بحسبانه تؤثر التهكم، ويبدو أنها حتى خلال الطقوس المقدسة لا تقوى على الامتناع عن الضحك.
في "هكذا تكلم زرادشت" يقذف زارا بتاج الضاحكين المكلل بالورود معلناً قداسة الضحك، ومخاطباً الناس (الراقين): "فلتتعلموا أن تضحكوا". ويقول نيتشه المتقنع بزارا: "أنا المتوج نفسي ملكاً على الضاحكين بإكليل ضفرته من الورود يدي. ليس سواي من يقوى على تطويب ضحكة كما فعلت.. أنا زارا العراف، أنا الضاحك الصبور المتسامح المحب للوثب وتجاوز المحدود، أنا المتوج نفسي بنفسي".
يعد نيتشه الضحك علامة فارقة للجسد السليم بالنسبة إلى العقل السليم. ويرى أن المسيحية تنبذ الضحك، وتعلي من شأن الكآبة والبكاء، وهو من كان يعيش في أوقيانوس العتمة، حالماً بأوقيانوس النور، أي بالضحك الذي لا يجارى. ونيتشه هو من تدفق بالجنون الضاحك، السعادة الضاحكة، الضحك المخصب، الخبث الضاحك، ضحكة البرق المبدع، الضحك الذهبي، الضحك المقدس، الضحك الإلهي. ولِما بين الضحك والرقص يلي الأمر بأن نعتبر كل حقيقة لا تكون فيها ضحكة مقهقهة، خطأ، وبأن نعد كل يوم من حياتنا لانرقص فيه مرة واحدة يوماً ضائعاً، فالوصل بين الضحك الداخلي والرقص الخارجي، يشكل التعبير الأوفى عن تأويل استثنائي، في ضوئه يمكن الاهتداء إلى نوعية الضحك، بمعرفة الرقص ومغزاه، وتلك قضية كونية وإن يكن لها بصمة أوروبية.

ولهؤلاء قولهم في الضحك

عن أبي حيان التوحيدي 922-1023 في المقابسات، ينقل إبراهيم محمود في "تراجيديا الضحك"، أن الضحك قوة ناشئة بين قوتي النطق والحيوانية: "وذلك أنه حال للنفس باستطراق وارد عليها. وهذا المعنى متعلق بالنطق من جهة، وذلك الاستطراق إنما هو تعجب، والتعجب هو طلب السبب والعلة للأمر الوارد، ومن جهة تتبع القوة الحيوانية عندما تنبعث من النفس، فإنها إما أن تتحرك إلى داخل وإما إلى خارج".
من التوحيدي إلى المتصوفة في التراث العربي الإسلامي، يتواصل القول في الضحك. فابن عربي إذ يرتحل في عوالم الحروف أو يعيش (الفتوحات المكية) هو: ضحك يشع. والحلاج في طواسينه يحاول التجرد من ماديته ليكون ضحكاً محضاً، فلا يقبض عليه. وعموماً، قد يكون المتصوفة في استراتيجية علاقتهم بالكلمة – حيث تتحرك الرموز في كل الاتجاهات – هم المميزون في ميدان الضحك المفتوح.
وبمواصلة القول في الضحك إلى العصر الحديث ها هو باختين 1895-1975 يرى أن الضحك سمة الإنسان، والضحك أتاح للإنسان الترويح عن نفسه من دون البهائم التي بلا عقل ولا روح. يذهب باختين إلى أن كل فصول دراما التاريخ العالمي جرت أمام الصوت الجماعي الضاحك. وفي كتابه "أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط إبان عصر النهضة" يعلن باختين الضحك هبةً من الخالق خصّ بها الإنسان وحده. والضحك تطهير للوعي من الجد الكاذب، من الوثوقية وكل المظاهر المنافقة. وإذا كان الزمن (يضحك ويلهو) فرابليه صاحب روايتي "غارغانتوا" و"بانتا غرويل" هو تتويج لآلاف السنين من الضحك الشعبي. والضحك الشعبي هو نسف لمفهوم الهرمية، وتحد لمن يتستر وراء نظام سلطوي.  
وهنا أذكّر بقول جمال شحيد عن ضحك العصر الوسيط إنه ضحك يلتقي فيه الجسد بأجساد الآخرين، مما يشعر بوجود شعب ينمو ويتجدد، ويضع نقطة استفهام على السلطة الزمنية العاتية غالباً. وقد أورد باختين عدداً من إنتولوجيات الضحك التي وضعها لاهوتيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر، يبلغ فيها الضحك أوجه بتركيزها على المبالغة في حركات الجسد واختيار المفردات اللغوية الساخرة وعبارات الإسفال والتفاحش.
ومن باختين إلى إميل سيوران 1911-1995 الذي يكتب في "المياه كلها بلون الغرق" أن تفجر المرء ضحكاً هو الوسيلة الوحيدة لتحدي أوامر الدم ونواهي البيولوجيا. وفي "لو كان آدم سعيداً" يكتب سيوران أن الضحك هو المبرر الكبير للحياة. وهو يعد الضحك ظاهرة عدمية، كما أن الفرح يمكن أن يكون حالة مأتمية. وإذا كان الضحك هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، فقد قال سيوران عن نفسه إنه حتى في أعمق لحظات اليأس، كان قادراً على الضحك.
أما ميلان كونديرا فقد كان للضحك في مختلف رواياته حضور خاص وتعبيرات شتّى، وبخاصة في رواية "الضحك والنسيان" بمحكياتها السبع، حيث ما يدعوه "الضحك الجاد" والضحك الذي يتجاوز المزاح مذكراً بالضحك العميق. وبينما يعد كونديرا الضحك الساخر من الآخر عنصرية مقيتة، تجده يرمي الضحك بالنسيان. فالضحك لا يقارع النسيان، بل يذكّر به حتى لا يكونه. وأن يضحك الإنسان يعني أن ينحي النسيان. ثم تجد كونديرا يعد الضحك أصل النسيان، والنسيان هو الضحك الذي لا يني يتلاشى.

الكتاب الضاحك

إنه الكتاب الذي يتحدى قارئه ويستثيره بمقدار ما يمضي به صوب المعصية المعرفية. والكتاب الضاحك يبحث باستمرار عمن يتصفحه، ويتوتر وهو يعاينه، أو يخاف وهو يغلقه، لأن هذا الكتاب يضحك معبراً عن حياة تتجاوز في حركيتها كل قيم الحياة السائدة. والكتاب الضاحك هو بلاغته الخاصة به وحده. وكما أن الكتاب يعاين ما ليس مفكراً فيه، فإن الضحك يخترق الصمت أو الوقار المفروضين، ويسعى إلى تبديد رهبة الموجود. وهما – الكتاب والضحك – يلاحقان باضطراد، والكتاب الممنوع مثله مثل الضحك المكتوم، ومن ذلك أن كل كتاب هو مشروع ضحك لا ينفد، يواجَه بالمقاومة.
ومما يعقد بين الضحك والكتاب أن الضحك يمثل أرشفة عقدٍ يعزز أخلاقيةً وروحاً مشتركة، وإيعازاً بالدخول في علاقة، وبالتحرر من الكثير مما يقيد القوى النفسية للشخص، كونه يهيئ لنوع من المساواة والحوار المجدي، ويزيح التحفظ جانباً. وهكذا يكون ضحك الكتاب هو حيويته المتجددة، ونفخ الكتاب في روح قارئه فاعل إحياءٍ وإغناءٍ بقدر ما هو نفخ قارئه فيه، كما أن الضحك فاعل معرفي نقيض للتقييد. ويتتوج كل ذلك بالنظر إلى الكتاب كضحك لا يتوقف، لأنه يروم الأبدية. لا بل إن الأبدية لا تسمى إلا من خلال كتاب يشع ضحكاً.

الضحك والسرد

عربياً، تعجّل الإشارة إلى زكريا تامر في مجموعته القصصية "سنضحك... سنضحك كثيراً" أو رواية هدى بركات "حجر الضحك" أو رواية غالب هلسا "الضحك".. لكن فخ الخديعة منصوب لمن يغفل عما يطويه العنوان الضاحك من الفاجع ومن السخريّ. ولعلي لا أبالغ إن ذهبت إلى أن رواية غازي القصيبي "العصفورية" هي سردية الضحك العربية المعاصرة الكبرى، بما يعنيه الضحك كبصمة من بصمات الكينونة الخاصة بكل إنسان، كبصمة العين. وإذا كان كل كتاب صوفي، بحسب إبراهيم محمود، مسكون بالضحك الطليق، فرواية "العصفورية" مسكونة بهذا الضحك، وإن لم تكن صوفية.
تتركز العناية في "تراجيديا الضحك" من بين سرديات الضحك، على روايات أمبرتو إيكو 1932-2016. ففي "اسم الوردة" يوضح بورج فلسفة الضحك: "الضحك هو الضعف، هو الانحلال ومسخ طبيعتنا الإنسانية. الضحك يحرر العامي من الخوف من الشيطان. يجب دكّ رصانة الخصم بالضحك". ولبطل الرواية آدسو ضحكه العصياني، بالأحرى: مشروع ضحك يوسع العالم. لكن إيكو يطلق ضحكاً (عالمياً) هو ضحك ضد العولمة باستهلاكياتها الكبرى، وهو ضحك القارئ المتعدد والعوالم المتعددة. ومن أجل ذلك تتقد سخرية إيكو ترياقاً للمعذب بجمود الروح. وفي رواية "باودولينو" يبرز هذا الذي تعنونت الرواية باسمه، أفّاقاً ضاحكاً، ضحكه هو ضحك الأسرار، ضحك ثقافة مغيبة، ضحك بالنيابة عن ضحك الكائنات.

قبل إيكو وبعده، لا تفتأ تراجيديا الضحك تتنقل بين العصور، من ملحمة جلجامش وأوديب إلى هايدغر وزوربا، ومن ريجيس دوبريه إلى ديدرو وفوكو، وكذلك من الماء والضحك إلى الضحك والمقدس، ومن اقتصاد الضحك إلى المهرج، إلى جينالوجيا الضحك...
لكن ما تؤول إليه أحوال البشر من المقتلة السورية أو العراقية مثلاً، إلى الترسانات النووية مثلاً، يبدو كأنها تحذف كلمة الضحك مكتفيةً بالتراجيديا، فهل يمكن للبشر أن يعيشوا من دون هذا الذي ميزهم عن الحيوانات: الضحك؟
م:نبيل سليمان : روائي وناقد عربي معروف، وصاحب دار نشر " الحوار " اللاذقية .
نقلاً عن " ضفة ثالثة : منبر ثقافي عربي "

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.66
تصويتات: 3


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات