القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: شيركو بي كَس: الشاعر الذي يكتب قصيدته الطويلة

 
الثلاثاء 06 اب 2013


 ابراهيم محمود

الشاعر الكوردي الذي ودَّعته الحياة عن عمر بلغ الثلاثة والسبعين عاماً، فهو من مواليد السليمانية في إقليم كوردستان العراق عام 1940، ترك جمهرة غفيرة من المعنيين به: أهلاً مباشرين ومقرَّبين منه عبر شعره، ويعني ذلك أنه كان محاطاً بهم ولو أنه أسلم الروح في السويد بتاريخ 4-8-2013. نعم، كان له أهله وأحبَّته، وليس من دونهم" كما هو معنى لقبه: بي كس: لا أحد، ولعله الدال على أكثر من معنى تجاوزه في شخصه وعناه في حسبه ونسبه الكورديين".


بي كس كتب قصيدته الطويلة جداً لحظة النظر في ومضاته الشعرية، أعني ما يبقي كل ومضة نزيلة خيالات قارئه أو شواغل ناقده الأدبية والفنية، عندما يضفي على كل قصيدة شعرية تنتهي سريعاً عملياً ما يبقيها جديدة، ولكنها من هنا تباشر عملها عبر استدراجات لها غوايتها بأكثر من معنى، كمن يحفّزك على رؤية الهواء، أو تأبط الماء، أو مساكنة النار ومصادقتها..الخ.
في الأكثر من ثلاثين أثراً شعرياً، كما في : شعاع القصائد(1968)، هودج البكاء (1969)، باللهيب أرتوي (1973)، الشفق (1976)، الغزالة(1978)، أنشودتان جبليتان( 1980)، الشيخ والبحر( 1982)الهجرة (1984)، مرايا صغيرة (1986)، الصقر (1987)، مضيق الفراشات (1991)، مقبرة الفوانيس، فتاة هي وطني (2011)..إلخ.
ربما كان في وسع هذا الشاعر شديد المحلية أن يعرّف بنفسه وفيه نبض عالمية، كونه آثر استلهام النفحة الشعرية من كل ما كان يمت بصلة إلى وطنه الممزق: كوردستان، وما عاشه ككوردي: الجبل والسهل والوادي والنهر والفراشة والوردة والماء والتراب والهواء والمنغصات وغيرها، في طبعة تحمل اسمه، كما لو أن لقبه كان يقتفي أثره ليزداد عمقاً، وهو يطلق أسماءه الكوردية الصرفة على أشيائه الكوردية المدماة واقعاً، أي حيث يكون القهر علامته الفارقة، وكونه تجاوز محنة القهر مراراً وتكراراً دون نسيانه، ليتمكن من التأريخ لرموزه وضحاياه.
ولعل تحرره من وطأة الذات المعذَّبة ومن ضيق الأفق في المرجعية القومية رغم  عنف المعايش فيهما، كان يجد تعبيره الأوفى فيما كان يأتي على ذكره، أو على طرحه وقد بات في حلَّة جديدة، كأنه صنعة الشاعر وفي عهدته ويعرَف به.
ثمة سَلسلة رؤى متتابعة لتكوّن قصة أو حكاية خاصة به، حكاية تُقرأ ولا تسرَد لكي تعاش من الداخل، كما في " تأمل":
تأمل
عندما تعطش جدولا
تجرح قلب النهر
عندما تأسر شعاعا
تثير غضب الشمس
عندما تجرح الشمس
تجعل الدم عدوا لك
ومن يصبح الدم المضيء عدوا له
يقتله الظلام
الحديث عن الطبيعة وللطبيعة، ولكن المخاطَب هو الإنسان دون استثناء، إنما المسكون برهبة المأخوذ به هو الشاعر. إنه أثَره الموقَّع باسمه.
يظل الإنسان هو مقياس الأشياء ليس على طريقة بروتاغوراس أو غيره سفسطائياً، إنما يكون البحث في العالم والسعي فيه، كما هو التوقف عند العلامات المميزة في الطبيعة شأناً إنسانياً، ويتضح مما تقدم أن الوردة كاسم اصطلاحي بلغة محددة، لا تعود وردة في صياغتها الشعرية، كما أنها تفارق حقيقتها النباتية على قدر إدخالها في اللعبة الشعرية، وحتى بالنسبة للتاريخ الذي يظهر أنه متحسس منه كثيراً، لأن ثمة ما يكتَب باسم الجلاد، وثمة ما يحاكم الضحية باعتباره مؤذي الجلاد، والتاريخ يكتَب باسم الأخير، ولهذا يكون حجم الحزن عصياً على القياس:
جاء التاريخ
وقاس قامته بقامة أحزانك
كانت أحزانك أطول
وعندما أراد البحر 
ان يقيس عمق جراحاته
مع جراحاتك
صرخ
لأنه كاد أن يغرق فيك
إن البساطة هي صنعة المبدع الذي يثير انتباه القريب والبعيد،  باعتباره المؤتي بالمختلف والمراهَن عليه لاحقاً، وما في ذلك من لصوصية مسلحة، لا بل ومن مداهمة له حيثما يكون، عبر التكتيم والتجاهل، بينما يكون في الطرف الآخر تحوير أو تزييف له، وفي الوقت نفسه محاولات متعددة، لكيفية استثمار ما جاء به كأنه الآخر بينما هو في الواجهة، وبي كس كان ظله ذاتياً بقدر ما كان يسمح للكثيرين في أن يتفيأوا به حباً، سوى أنهم كانوا يريدون إبراز ظليتهم في التقليد، ولكن الظل العائد لكل منا يسمّيه ويعنيه، من خلال المتعارَف عليه بـ" السهل الممتنع"، كما في هذا الاسترسال" الكتابة":
لا تكتب السماء المطر
على الدوام
لا يكتب المطر الانهار
على الدوام
لا يكتب الماء البساتين
على الدوام
لا يكتب البستان الورود
على الدوام.
و لا أنا اكتب الشعر
في السهولة الجلية في هذا النص: القصيدة، وفي سواه، ثمة إغراء دائم بالمحاكاة أو التقليد، خروجاً من القطيعية التي ينظَر في أمرها كثيراً، مثلما أن ثمة عدداً ملحوظاً من ذوي الاحتياجات الأدبية مع ضعف في الموهبة وتصحر في الذات الأدبية، يتلمسون في ذلك فرصتهم السريعة بوضع المقابل، لكن البساطة في مرجعيتها الينبوعية تفضح السر المزعوم وتشهر في الساعي إلى لفت الأنظار باعتبار إبداعي كما في السالف ذكره.
كأن الشاعر الكبير الذي خبر الحياة ببساطة المدوَّن شعرياً، يرسل تحذيراً إلى جانب طلقاته الشعرية التي تحيي ولا تميت من يهمه الأمر:
الحية
نفخ لهب على ناره
ليطفئها
عندما لمح حية مقرورة
تجيء لتلتف قربه
وبين الحية وبين المسكون بالحياة ثمة تاريخ، ثمة ثقافة، ثمة مناورات وحسابات، إنما ليس بوصف الحية حية، إنما بوصف المندفع صوب اقتناص الفرص يشاكل الحية، يتلبسها في الوضعين: أن تكون متجمدة، وأن تكون دافئة، والسلوك الحيّاوي في كل وضعية، وثمة النظير البشري أيضاً، لكن الأوخم هو كيفية معاينة الوسط ومن يكون فيه وما إذا كان جديراً بالمجاورة والبوح بسر ينقلب فاجعة لصاحبه.
بالطريقة عينها، يمكن إجراء مسح ميداني في دوائر الحياة وفي الوجوه البشرية ومراتبها وصفة هذه المراتب كما تقول التجربة، والأمر لا يتطلب أكثر من مرونة وليونة في تعقب الروائح وأساليب التحرك وخاصيات التحادث باختلاف المجتمعات وليس عبر التعميم، لكن ذلك يعني إمكان توسيع حدود الرؤيا الروحية، كما لو أن الجسد العائد إلى المبدع وليس الشاعر وحده يتنفس ما هو كوني، لبلوغ الأوفى والأصفى في المعتبَر سهلاً.
كما في هذا المشهد المتدرج ولكنه المرعب في سيرته المسلكية وفي حيثيات تاريخ وجغرافيا عاشهما ب يكس" ضابط عادي":
عندما منحوه كوكبة واحدة
كان قد قتل كوكبا
و عندما صارتا اثنتين
صارت يداه حبال مشانق.
و عندما صارت ثلاث كواكب
ثم تاجاً و ما فوق
استيقظ التأريخ
فوجد البلاد
مملكة أرامل
سيصرخ القارئ المشغول بنشوة النص الجميل: أووه هذا هو المطلوب، ويقول الحاسد المبتلي بعمى روحي: يا للفجاجة في التعبير والإيديولوجيا المهزومة على أرضها لأن ثمة ما لا يخفى على أحد ما يربض وراء هذا الكلام العادي جداً. حسن هات النظير.. استسلام ولو دون كلام !
أظن أن بي كس يمنحني فيما تركه من آثار لا تخفى روعتها، المزيد من الفرص لتذوق سلالات الإبداع، عبر النظر في كل ما هو قائم في محيطنا، حيث إن " الطريدة" الشعرية لا ترعى بعيداً أو تقتَنص في غفلة، إنما تكون في روح تسيطر على أفق يتسع باضطراد، والحكمة قائمة بتنوع لوائح جمالياتها في كل ما نشمه ونضمه ونتلمسه ونتذوقه ونتخيله..الخ، إنها العجينة التي لا تنفد، سوى أن على يدي الإبداع أن تكونا على مستوى المعطى زمكانياً، وفي كل موجود ما يصلنا بوجود له مردوده الجمالي، كما في مثاله الذي نعايشه، ولكنه القلة القليلة جداً مثله تخلّده أدبياً حتى خارج لغته المعنَّاة مثله كثيراً: الفراشة:
لا تحزني أيتها الفراشة/
لعمرك القصير/
لأنك وفي الغمضة تلك/
منحت طولاً لعُمر الشعر/
لم يعطه حتى "نوح"/
فلا تحزني... أيتها الفراشة
وحده الإنسان هو الذي يحزن، وما عليه لكي يطرب أن يمعن في سر هذه الفراشة وعلامتها!
هل ثمة ضرورة لتقليب المشهد الشعري على وجوهه لقراءة النافذ فيه إلى ما وراء المنظور؟ حيث الفراشة تعنينا وتتمثلنا خفة ورفة وتحفة !
ربما من هذا المنطلق الإبداعي النفيس ترك الراحل الكوردي الكبير قصيدته الطويلة جداً. على النقاد النقاد إذاً التمكن من قياسها !
-دهوك 5-8-2013
نشر المقال في صحيفة السفير اللبنانية- الثلاثاء-6-8-2013

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات