القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

الحكواتي 3

 
الأثنين 21 ايار 2012


دلور ميقري

1
أوارُ شعلة الانتقام، عليه كان أن يؤرَّث في داخل بطل رواية " الكونت دي مونت كريستو ". إنّ " مونتس " هذا، كان قد هضمَ جيّداً ذلكَ التصوّر، المُفترَض، الذي تبلّغ به في عتمة سجنه، ليلة مُمضة تلوَ الأخرى، عن لغز المؤامرة الجهنمّية، الدنيئة، المُشارك بحياكتها ثلاثة أشخاص لم يكُ يَربط فيما بينهم، على ما يبدو، سوى مصلحة واحدة حَسْب: التخلّص منه، أبداً. وإنه زميله السّجين، الكاهن سابقاً، من كان له الفضل بكشف مَستور أولئك المتآمرين: هذا الرّجل العجوز، الأخرَق، المهووسُ بفكرَة الكنز السرّي، شاءَ هكذا مُساعدة مونتس في حلّ معميّات ذلك اللغز، مُعتمداً على حنكةٍ وفِراسَة وحكمَة تأتتْ له من تجربة الحياة، الطويلة العاصفة.


غلاماً غريراً، كنتُ إذن، عندما اطلعتُ على كتاب اسكندر دوماس، الأشهر؛ هوَ المَعروف في الأدب العالمي، الكلاسيكي، كواضع لأساس رواية المغامرة. وقد جاز للمُصادفة، البَحتة، أن تقعَ " الكونت دي مونت كريستو " بين يديّ في جوّ من المغامرَة، أيضاً. وبما أنّ رحلتي في الحياة، آنذاك، كانت ما تفتأ أقلّ بكثير من مثيلتها لدى بطل الرواية، السّجين الشاب؛ فلا غروَ أنّ فكرة الانتقام لم يكن لها لديّ مَعنىً أو ضرورة. على ذلك، فإنّ فكرة أخرى بالمقابل هيَ من استلهمتها عن بطلي، الأثير: إنّ موضوعَ الكنز، المَبذول سرُّهُ لمونتس وفقَ رغبة صديقه العجوز، والذي تملّكه فيما بعد على كلّ حال؛ هذا الموضوع، لم يَشغل خيالي الفتيّ فقط، بل ودَفعَ خطوي على طريق مغامرةٍ شبيهة،  شائقة وخائبة في آن.
بيْدَ أنّ العِبْرة، إذا صحّ التعبيرُ في حالتي وقتئذٍ، هيَ من كسَبَ أخيراً. إذ أنّ ملابساتٍ مُعيّنة، مُتواشجة ولا شكّ مع حكاية كتاب اسكندر دوماس، جَعَلتْ مني راو للحكايات وأنا في ذلك العُمر المُبكر. مع أنّ هذه التجربة، القصيرة على أيّ حال، قد دُفِنتْ لاحقاً تحت ركام مَشاغل المراهقة وما تبعها من فترة التجنيد العسكريّ، المَديدة والمَريرة. يَجدُر بي التنويه، إلى أنّ مُحاولة واحدة حَسْب، لكتابة قصة طويلة، رومانسيّة، كانت قد شغلتْ عطلتي الصّيفية حينما كنتُ في سنّ الرابعة عشر. ولكن المحاولة الأدبيّة تلك، الساذجة ولا شك،، كانت بإلهام من رواية أخرى. إلا أنّ هذا، حديثٌ آخر.

2
ثمّة مَجاز، استشِفّهُ من قراءتي اليومَ مُجدداً لرواية " الكونت دي مونت كريستو ". فمونتس، بطل الرواية، حينما كان يكدّ ويَشقى، عبثاً، في حفر الصخر الجلمود، سَعياً منه للهرَب نحوَ الحريّة المأمولة؛ فإنه لم يكُ يَدري، بطبيعة الحال، أن يوماً سيأتي لكي يَنشقّ الصخرُ بين يدَيْه عن كنز يُعادل ثروة ملك فرنسة. غيرَ أنّ الحُلم بالانتقام، وليسَ الثروة، هوَ ما كان يَشغلُ تفكيرَ بطلنا. وإلا، لما كان قد عمَدَ إلى العودة لمدينته، بل لفرّ بعيداً عنها، وربما عن البلاد كلها، لكي لا يَكتشف أحدٌ شخصيّته الحقيقية ـ كسجين هارب من المُعتقل. وإذن، ففكرة الانتقام هيَ من تقاليد الرواية الرومانسيّة، التي محوَرُها ثنائية الخير والشر. دونما أن ننكر، بأنها فكرة بشريّة، خالدة.
إعادة قراءتي لهذه الرواية، من جهة أخرى، لم تتحقق سوى اتفاقاً. إذ كنتُ أحرِّكُ سهمَ كمبيوتري في موقع يوتيوب للأفلام العربية، حينما فوجئتُ بكون فيلم " أمير الدّهاء " هوَ نسخة مُستحدثة بالألوان من إبداع هنري بركات؛ أيْ نفس مُخرج فيلم " أمير الانتقام ". هذا الأخير، كما تمّ عرضه فيما نشِرَ من مقالنا، مُقتبَسٌ عن رواية اسكندر دوماس " الكونت دي مونت كريستو ". وإذن، كنتُ عازماً على مُقاربَة كلا الفيلمَيْن، المَوْسومين، مع قصّتهما الأصل، حينما عزفتُ عن ذلك أخيراً: فقد دَهَمَتني، على حين فجأة، فكرة ٌ أخرى أكثر جدّة؛ وهيَ أن أعودُ بالذاكرة إلى فترة اكتشافي لهذا الأثر، النادر، وما شكّله من تأثير في طفولتي وفتوّتي، وصولاً إلى فترة نضوجي الأدبيّ.
لم يكُ بلا مَغزى، إذن، أن يَحمل أولُ ديوان شعريّ أنشرُهُ، هذا العنوان: " بحثا في السّراديب عن كنوز الكردوخ ". وكذلك الأمر، في ديواني الثاني، المَنشور، والمُتضمّن إشاراتٍ خفيّة تحيلُ إلى رحلة طفولتي تلك، المَوْصوفة فيما سبق، بحثا عن " كنز مَعْرَبا ". هذه الرّحلة، على كلّ حال، وَجَدَتْ مكانها تفصيلاً في الجزء الأول من سيرتي الذاتية؛ المُعنوَن بـ " زهر الصبّار " / التي نشرتها على النت عام 2007.
" كنز الكنج "، كان أيضاً البؤرة الأساس في السّرد، كما عَرَضَته روايتي الثانية، " الأولى والآخرة " / المَنشورة أيضاً على النت عام 2010: إنّ ذلكَ وإن كان حيلة روائية، إلا أنّ له أرضيّة في تاريخ دمشق بمستهلّ القرن التاسع عشر؛ حينما عُزلَ الكنج يوسف باشا الكردي، والي الشام، فتمرّدَ على الدولة مُتحصّناً مع عسكرهِ بقلعة المدينة. وقد شئتُ تقديمَ موضوع " كنز الكنج " للقاريء، وذلك من خلال مقدّمة مكتوبة بقلم مُحقق مُفترض لمَخطوطةٍ تاريخيّة، كان قد عثرَ عليها اتفاقا في أرشيف مكتبة عامّة. هذه المَخطوطة، المَزعومة، هيَ بطبيعة الحال من تضمّ مَتنَ عملي الروائيّ بأسره.
ليسَ موضوع الكنز، حَسْب، هوَ ما علقَ في طيّات ذاكرتي، حينما كانت فكرة كتابة رواية " الأولى والآخرة " تراودني: إنّ جرائمَ القتل بالسمّ الغامض، هيَ كذلك من واردات تأثري الخفيّ برواية " الكونت دي مونت كريستو ". هذا مع التأكيد، بأن هذه الأخيرة كانت غير واردة في ذهني إطلاقا، سواءً حينما بدأتْ فكرة الرواية تشغلني أو لدى الشروع في كتابتها.

3
يُخيّل إليّ، في هذا الصّدد، أنّ أدباء كثيرين حولَ العالم، قد تأثروا بهذه الدرجة أو تلك بتحفة اسكندر دوماس. إن فيكتور هيغو، المُبدع العملاق، كان من جيل مواطنه، مؤلف رواية " الكونت دي مونت كريستو "، وكان كذلكَ صديقاً له، مُقرّباً. فكرة الفرار من ماضٍ مَرير، مَشبوه، نراها في رواية " البؤساء " بشكل جليّ من خلال سَعي السّجين الهارب، " جان فالجان "، إلى اخفاء شخصّيته الحقيقية والظهور في المجتمع بصورة الرجّل الثريّ، المُحسن والكريم. إنّ الموهبة الفذة لفيكتور هيغو، قد جعلته يَخلق نموذجاً فنياً لبطل القرن التاسع عشر، الساعي لتحقيق العدالة الاجتماعيّة بجهدٍ فرديّ، والمُنتقِم من ماضيه البائس لا من أعدائه الشخصيين.
وإلى تلك الفترة تقريباً، تعودُ رواية دستويفسكي " الجريمة والعقاب ". وهذا العبقريّ، من جهته، أبدَعَ نموذجه الفنيّ الخاص بالعصر، حينما صوّر الصراع النفسيّ العميق لبطلها، " راسكولنيكوف "، الحالم بالثروة من خلال ضربة فأس، خاطفة وقاتلة. هذا الكنز، المُفترَض، كان في تفكير بطلنا وسيلة لتحقيق هدفٍ سام، يتمثلُ في إنقاذ أناس آخرين يَمتون إليه بصلة القرابة أو المَعرفة. ومما له مَغزاه في مقاربتنا، أنّ تكون ثروة المُرابيَة العجوز، المطلوبة لراسكولنيكوف بإلحاح، مَكنوزة في أحد أدراج خزانة حجرتها: ألا يُذكّرنا ذلك بثروة الكاهن العجوز، في " الكونت دي مونت كريستو "، المكنوزة في جزيرةٍ مَهجورة؛ والتي لم يَحصل عليها مونتس إلا بعد موت صاحبها. هذا البطلُ، مثلما حاله البطل الآخر راسكولنيكوف، أرادَ استعمال الثروة لتحقيق هدفٍ يعتقدُ أنه يُجسّدُ المُثلَ الأخلاقية السامية.
 كذلك طوّر دستويفسكي بصورة رائعة نموذجَ رَجُل الدولة، الساهر على حمايَة الأمن والقانون: ففي حين أنّ شخصيّة المُحقق، في " الكونت دي مونت كريستو "، كانت تتسِمُ بالأنانيّة والغدر، ولا تشترك مع شخصيّة المُحقق في " البؤساء " سوى في الاحساس بالواجب؛ فإنّ زميلهما، " بورفير "، في رواية دستويفسكي، كان على درجة رفيعة من الثقافة والشعور الانساني، مما أهّله لكي يحلّ لغز القاتل، وفي الوقت نفسه، مُساعدته في تغيير حياته نحوَ الأفضل.
من الأعمال المُعاصرة، المُهمّة، المُتأثرة بتحفة اسكندر دوماس، يستطيع المرءُ مُقاربَة كلّ من روايتيْ " اسم الوردة " و " الخيميائي ". الأولى، وهيَ أشهر أعمال امبرتو إيكو، مَبنيّة في حبكتها الأساس على لغز جرائم القتل بسمّ غامض، التي تقع في أحد الأديرة خلال فترة القرون الوسطى: إنّ زوجة المُحقق، في رواية " الكونت دي مونت كريستو "، تلجأ أيضاً إلى استعمال سمّ مُركّبٍ بطريقة تصعب اكتشافه، طالما أنه يُحقق الموت لضحيته تدريجياً. وبما أنّ رواية اسكندر دوماس هذه، تعتمدُ على إدخال وَحداتٍ صغرى في السياق الرئيس للسّرد، بهدف تنميته وصولاً لحلّ العقدة؛ فإننا نتابعُ تفاصيل قصّة هذه المرأة القاتلة، وكيفيّة تنفيذها لعدد من الجرائم حتى يتمّ ضبطها في نهاية المطاف بوساطة طبيب العائلة.
 ومن الأهمية مُلاحظة ذلكَ الحوار الطويل بين الطبيب والمرأة القاتلة، بشأن تركيب السموم من أنواع بعينها من الأعشاب: تماماً، كما سنقرأها في رواية " اسم الوردة "، من خلال متابعتنا للنقاشات العلمية، الطريفة، بين " غوليامو " والعشّاب المسئول عن تركيب العقاقير، بما فيها السموم، في الدير الكبير.
رواية " الخيميائي "، حققتْ فورَ صدورها حضوراً طاغياً لمؤلّفها باولو كويلهو على مستوى الأدب العالميّ. وهذه الروايَة، محورُها حكايَة كنز؛ أيْ كما في " الكونت دي مونت كريستو ". إلا أنّ رحلة بطلها، الراعي الشاب، من الأندلس إلى مصر عن طريق الصحراء المغاربيّة الكبرى، إنما هيَ الهدفُ الرئيس للسّرد. إن البطل الشاب يبدأ رويداً بتلقي حكمة الحياة، الخالدة، بتعرّفه في درب السفر على رجل عجوز يشتغل بالكهانة ويُنعتُ بالخيميائي: لكأننا هنا أمام عجوز " الكونت دي مونت كريستو "، الأخرَق، المُمتليء بالمُقابل بتجارب الحياة وحِكَمِها؛ والذي منحَ مونتس ليسَ سرّ الكنز حَسْب، بل وخاصّة الكثير من ثقافته وعلمِهِ.
وعودة إلى " اسم الوردة "، لكي نتأمّل كيف أنّ ثنائيّة التلميذ والأستاذ يُمكن تتبعها ثمّة أيضاً في العلاقة بين بطليْها؛ الكاهن المبتديء، " أدسو "، والكاهن المُحقق، " غوليامو "، الغزير المعرفة والتجربة.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات