القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

تمثلات موت الشاعر

 
السبت 28 كانون الثاني 2012


ابراهيم اليوسف

“أنا حي . . .!
لاتصدقوا ماترونه الآن
أمام أعينكم
هاهي قصيدتي تنشر عني
كل هذا الهواء
والحياة . .!!”
             كتابة على شاهدة قبر شاعر مجهول


أوتي الشاعر، بمكانة رفيعة في مجتمعه، عبر العصور، فهو الذي يحتفل مجتمعه بولادته، مادام أنه لسان هذا المجتمع، وضميره الحي، إلى الدرجة التي نعت فيها من قبل بعضهم بأنه بمرتبة “وزير الإعلام” لأهله، حين يكون في وطنه، والسفير الحقيقي لهم، أنى حل، ولعل هؤلاء كانوا محقين، في ما ذهبوا إليه، من إجلال للشاعر، مادام أنه يجمع بين الثقافة الرفيعة، والحس المرهف، بحسب مقاييس كل عصر، ناهيك عن أن هناك حقيقة تم إثباتها، وهي أن كثيرين من الشعراء خلدوا أصحاب السلطة في عصورهم، حينما كانوا مقربين منهم، بل ما أكثر هؤلاء الشعراء الذين لا تزال أسماؤهم تحافظ على ألقها، ولاتزال قصائدهم خالدة نستظهرها جيلاً بعد جيل، بالرغم من أنهم عاشوا قبل الآن بمئات، أو آلاف السنين، في الوقت الذي لا يعرف فيه من كان هؤلاء الملوك والأباطرة والحكام الذين عاشوا في أزمانهم تلك .

وإذا كانت ولادة الشاعر، أو وجوده، على هذا النحو من الأهمية، في حياة أهله، فإنه لمن الطبيعي، أن يكون موت الشاعر مدعاة حزن وأسى شديدين، لأن موته يعني التنكب بخسارة عظمى، في حياة هؤلاء، وإن ذلك لن يستعاض البتة، إلا بولادة قامة إبداعية عالية، تذكر بقامة الشاعر الراحل، وهيهات أن يتحقق مثل ذلك!، لأن الشاعر الاستثنائي، قد يكون حافزاً في ولادة شعراء آخرين، قدوة لهم، يحتذون به، أو يتتلمذون على يديه، ويكون وجوده بينهم دافعاً للتباري والتنافس ومواصلة الإبداع .

وموت الشاعر حدث جلل، في حياة مجتمعه، ويكاد يكون تاريخاً لدى الناس، خصوماً أو محبين، في آن واحد، إذ لا يختلف الخصوم والمحبون، في أهمية إبداعه، سواء اعترفوا بذلك، أم لا؟، وما أكثر هؤلاء الذين أعلنوا عن ألمهم الكبير عند فقدهم هذا الكائن الفريد، في ما لو كانوا مختلفين معهم، في رؤى ما، وكأن العنصر الجمالي في قصيدة الشاعر قادرٌ على أن يكون الرباط الوثيق، والأمثل، وعامل الجذب، الأشد، إلى عوالم هذا الشاعر، كي يكون الاختلاف معه غير مكتمل، ولتغدو هناك في حياته مساحة، توحد كل من يمتلك المقدرة على تذوق أحد أسمى الفنون، في الحياة، على الإطلاق . بيد أن هناك من يريد الموت للشاعر، نتيجة نوع خاص من الضغينة ذات التوتر العالي، ولا يتورع عن ترجمة ذلك، بكل ما يمكن من سلوكيات، وأفعال، وأقوال، كي نصبح بهذا أمام نوعين من الحاقدين على الشاعر، أحدهما يجد استمرار حياته في إلحاق الأذى به، بيد أنه يرى في وجوده أمراً في غاية الضرورة، والثاني هو من يرى في ديمومة حياة الشاعر خطراً على مصلحته، فلا يتورع بكل السبل الممكنة، وغير الممكنة، عن إلحاق الأذى تلو الأذى به، من دون أي وازع من أخلاق، أو ضمير، وما أكثر الحالات التي مورس فيها القتل بحق الشاعر!، فدفع حياته، وحياة قصيدته، ثمناً لهذا الصنف من الحقد اللاإنساني .

ولعل الموت، عادة، يشخّص في مفارقة الروح الجسد، وفق فيزياء خاصة، لتكون له علاماته المحددة، وهو خصيصة إنسية، لا مفر منها البتة، فإن في موت الشاعر أشكالاً كثيرة للموت، حيث لكل شكل سماته الهائلة، ومعجمه الخاص المفتوح على حقول التوصيف .

إن لكلمة الشاعر التي تنتظم، في شكل قصيدة، سريعة التناقل على الألسن، صداها الكبير في نفوس جمهور المتلقين، أينما كانوا، فهي إلى جانب مهمتها الجمالية، فإن لها مهمة معرفية، غالباً ما تؤديها على يدي الشاعر، المتبصر، صاحب الرسالة والموقف، حيث يكون للقصيدة وقع السيف، أو الرصاصة، عندما يتسلح الشاعر بالرؤية الواضحة، من قضايا إنسانه، ومجتمعه، متوغلاً فيها، ليجد فيها المستبد تهديداً لسلطته، وتقويضاً لحضوره، وكأن الوجه الآخر لهذا الجمال، إذ يؤدي وظيفته في تطهير الأرواح، تحرض على مواجهة كل أدوات الشر، فلا حياة للشر مع الجمال، وهو ما يدفعه ليصب جام غله وغضبه عليه، فيسارع إلى إطفاء جذوة القصيدة، مادام الشر لا يعيش إلا في حلكة الديجور، كي يمارس سطوته، من دون أي حسيب أو رقيب .

ومن أشكال قتل الشاعر، النفخ على الروح في جسده، ليس لكي تتأجج، بل لتخمد، وهو ما يتم عبر الإطاحة برأس هذا الفنان، خالق الجمال، أو عبر قطع لسانه، أو كسر أصابعه، أو فقء كلتا عينيه، كي يكون هذا المشهد ليس انتقاماً من شخص الشاعر، بما يحمل من اسم، ومناقب، ورؤى، وموقف، بل ليكون ذلك رسالة إلى كل من يسلك طريق هذا الكائن المغامر، حتى يعد في داخله القيد تلو القيد، لترسم تابوات، لابد من تشرنق المبدع داخلها، وكأن التابوت هو تابوت الفنان، لأن لا إبداع، دون حرية . .! .

في ضوء مثل هذا الكلام، يمكن تفهم سلوك السلطة الاستبدادية، أينما كانت، في التضييق على الشاعر، هذا التضييق الذي يتجسد في صيغته الأولى، عبر التلويح بأسلوبي الترغيب أو الترهيب، كي ينتفي الترغيب، في ما بعد، وتستمر آلة الترهيب، هذه الآلة التي تتجلى في أشكال شتى، ومن هذه الأشكال، ممارسة آلة القمع بحق الشاعر، كمحاربته في لقمته، وهو أحد أشكال الموت، أو محاربته في حقه في الاستقرار، وهو الموت كذلك، أو تهميشه، وهذا هو موت أيضاً، كما أن السجن هو موت أيضاً، أو النفي بشكليه: القسري أو الطوعي، هما الموت عينه، وكل هذه الميتات تشكل جزءاً أو وجوهاً من إماتة الشاعر، أو قتله، وهو أبشع أنواع الموت، وأقساها .

وقد أثبتت الثورات الشعبية التي تمت من حولنا، أنها أماطت اللثام، عن موت آخر أكثر بشاعة، وهو أن يجد الشاعر منظر الانتهاكات المريبة، في مجال حقوق الإنسان، حيث تتم مواجهة صاحب الرأي بالرصاص، ما يجعلنا أمام أكثر من موقف من قبل الشاعر، حيث الشاعر الذي سرعان ما تفاعل مع المشهد الأشد مأساوية، والمنخرط في المشهد، ليكون لسان حال هؤلاء، متخذاً موقفه من القاتل، مهما كانت ضريبة ذلك باهظة، وهو عارف أن مصيره لن يكون بأفضل حال، من مصائر ضحايا آلة القتل،إذ لا حصانة للمبدع في ظل هيمنة الاستبداد، أو شبحه . بيد أن هناك كذلك الشاعر الذي صمت إزاء ما يتم، وهو موقن في قرارته، أن ظلماً جسيماً، يمارس بحق أهله، وشعبه، بيد أنه يجد في صمته- وهو التواطؤ عينه-ما يكفل ضمان ديمومة منافعه، المفترضة، أو الفعلية، وسلامته، فهو-هنا-يحكم-بالموت على نفسه، ليجني على ذاته بالعار،وخيانة الرسالة التي يحملها، أو خيانة الشعر، والذات،ما يجعله طوال حياته يحس بالمرارة، وإن كان هناك من سيفلسف هزيمته الشخصية، من خلال تخوين الآخر، حيث يواجه فضيحته بتصدير الفضيحة، وإن كانت هذه الفلسفة نفسها محكومة بالموت . كما أن هناك شاعراً ينحاز إلى القاتل، ضد الضحية، ويقبل أن يكون مجرد كومبارس، في جوقة القاتل، يتحرك، ويتحدث، وفق إشارته، على نحو سيركوي، بل يرد بببغاوية ما يملى عليه، من رؤى السياسي الجهبذي، الذي يعمل في مطبخ هذا المستبد، وهو الآخر مدرك في قرارته أنه يزور الحقيقة، بيد أنه غير قادر أن يشبه قصيدته، وهي تؤسس على مفاهيم نصرة المظلوم ضد الظالم، وغيرها من قيم الخير، والحق، والجمال، وهنا الطامة الكبرى، حيث يزلق نفسه إلى مهاوي شراكة المجرم في جريمته، مغامراً باسمه، وقصيدته، مساوماً على حيوات آلاف الأبرياء .

عود على بدء: ومادام أن الموت الفيزيولوجي الذي يتعرض له الشاعر، لن يؤثر في حياة قصيدته، بل تظل، ما ظلت الحياة نفسها، كما أن الفجيعة بموت الشاعر، لم تعد فجيعة أسرته، وقبيلته، أو مجتمعه، فحسب . . . .، بل هي فجيعة كبرى، تتوسع دائرتها، الآن، في هذه القرية الكونية الواحدة التي نعيش فيها، فقد كان رحيل محمود درويش صاعقة كبرى لكل من تنبض روحه بالشعر، على امتداد سعة هذه القرية، الصغيرة، الكبيرة، مادام هذا الشاعر الاستثنائي الفريد، كان صوت قضيته، وكان حبه الصادق لقضيته دافعاً لحبه لقضايا الآخرين العادلة في العالم، أجمع، وهو ما يذكرنا بأن رحيل أي شاعر عالمي سواه، كان مدعاة ألم بالنسبة إلى العالم أجمع . إن مثل هاتين الميتتين لتجعلان الموت صغيراً، أمام ما أنجزاه، بل نحن لإزاء هزيمة للموت، واستصغار لشأنه، مادام هؤلاء قد استطاعوا تحقيق ما قاله تولستوي بخصوص الأثر الذي لابد أن يتركه المبدع وراءه .

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.90
تصويتات: 11


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات