القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: (آزاد) يوقد شمعة ـ ليلة نوروز ـ على حدود الجولان

 
الخميس 17 اذار 2011


المحامي محمود عمر

انتصر في النهاية على جميع مخاوفه وهواجسه, أخرج من جيب سترته العسكرية شمعة بسرعة أشعلها, ونصبها على محرسه ,تودع  أشعة الشمس الذهبية ـ سهول حوران ـ آخر لحظات النهار لتفسح لضوء شمعته لتضيء ما حولها, شد بكلتا يديه على بندقيته بينما كان بصره متوجها صوب الجولان وهو يحلم بإيقاد المزيد من الشموع  على كل بقعة من أرضه في النوروز القادم,أخذ نفسا عميقا,دخان سيجارته يداعب ضوء الشمعة, تذكر عائلته ورفاقه وكيف أنهم الآن يوقدون الشموع في شوارع القامشلي وأزقتها, ويعدون العدة للاحتفال غدا بنوروز مع الطبيعة, انهمرت من عينيه دمعتان حين تذكر أمه وكيف انه خالف وصيتها, حين حلفته بأغلظ الإيمان بأن يحاول قدر الإمكان أن يتجنب حتى الحديث بلغتها طيلة خدمته, مذكرة إياه في كل إجازة بقصة جارهم (برزان),


 وما أن تذكر هذا الاسم حتى أجهش بالبكاء, (برزان) صديق الطفولة, هذا الصبي الذي كان يعلوهم جميعا بقامته, قوي البنية, مغامر, يصارع جميع الصبيان الأشرار ويدافع عن الأخيار, يقول دوما إني شهيد,تمر الأيام يشتد عود (برزان) طبيعته الانفعالية جعلته ينجرف قبل غيره مع التيار تأخذه الشعارات الجميلة والأغاني الحماسية بعيدا, يغدو مقاتلا على ذرى جبال كردستان, يضرب به المثل في الشجاعة, والإيثار, يصاب أكثر من مرة, ولكن وفي كل مرة يكتب له القدر حياة جديدة, تتبدل الظروف وتتغير الموازين, يشتاق إلى حضن أمه والى حارته القديمة, يعود اليها بعد أن يمضي في الزنازين عدة شهور, ولم يكد يشبع من دفء صدرها, حتى يناديه الواجب للخدمة الإلزامية, وفيها تحمله خصاله الحميدة وشدة بأسه بأن يكون مثال الوفاء والإخلاص بين أقرانه ,نصف الأعمال والمهام يؤديها لوحده وأوقات الراحة والاستراحة يلتف حوله الجميع ليحكي لهم عن قصصه الجميلة حينا والمرعبة والمخيفة حينا آخر, يحكي لهم عن الحوادث التي مر بها في قنديل وجودي, وهكاري, وأرارت, تمر أيامه الجميلة هذه  بسرعة لما فيها من ود ومحبة رفاقه,ولكن ذلك لا يدوم ,هذا الضابط لا يترك فرصة الا ويحاول أن يقوم بإهانتي, اسأل عن سبب كرهه لي فلا أجد إجابة, انا أقوم بمعظم الأعمال والواجبات, وأتحمل كل الصعوبات, هل يتحسس من لغتي أو أسمي,ولكن هناك أيضا العديد من الأسماء الشبيهة هناك محمد وهوزان وجورج وموسى, هل إن طول قامتي وبنيتي القوية مقابل قصره ونحافته, تجعله يشعر بالنقص, فيعوض هذا بذاك, ولكن ماذا أفعل هذه مشيئة الله,أحاول دوما أن أكسب وده وأتجنب شره ولكن دون جدوى ـ هكذا كان يسترسل (برزان) في حديثه ـ دنت ساعة الصفر, يومها لم يستطع أن يكظم غيظه رفع يده ليضربني ويهينني, أمسكت بيده قائلا: أنا هنا لأخدم بلدي ولست هنا لتهان كرامتي, واعلم بأن الجندي متى شعر بفقده لها سيصبح عاجزا حتى عن أن يدافع عن وطنه, لم يتوقع هذا الحديث مني غادر مسرعا الجميع كان ينظر إليه باستهجان وكنت أرى العطف في عيونهم نحوي, تابعت مسيرة أيامي وكن متيقنا انه يتحين الفرصة للنيل مني, في يوم العمل ذاك كنت أتصبب عرقا من شدة الحر, رفعت الخوذة ووضعتها جانبا لأمسح  بعض العرق الذي ملآ عينيُ, يبدو انه كان يترقبني في تلك اللحظة, وها قد جاءت فرصته الحنيذة, لم أشعر إلا بضربة خوذة قوية على رأسي من الخلف وصوته ينطلق بحقد دفين قائلا: ألا تعلم انه لا يجوز رفع الخوذة عن الرأس أثناء المشاريع, ـ كان هذا آخر حديث (برزان) في المشفى لأحد أقاربه قبل أن يغمض عينيه للأبدـ أحيل الضابط إلى المحكمة العسكرية رفعت عن أكتافه الرتب , ويوم النطق بالحكم  بكى بكاءا شديدا وتوسل إلى والد برزان ووالدته أن يغفروا له أصبح يلطم على وجهه وهو يقول: ان ما قمت به هو عمل جبان , حتى حياتي كانت تافهة مجرد التزام بعمل روتيني ونوم لم أتعرف على الناس ليست لدي صداقات حقيقية, سامح الله أبي لم يكن هذا طريقي لقد أجبرني على التطوع  حتى أكون ضابطا وأحقق له أمنيته التي أخفق هو في نيلها فعقدة النقص من الضباط لم تفارقه طيلة خدمته – مساعدا- في الجيش كنت أتوسل إليه بأن يترك مستقبلي لي ولكنه أجبرني , كنت فاقد الإرادة أمام اصراره وطغيانه ,وهذه هي النتيجة حقدي وعقدة نقصي أمام جسارة هذا الفتى وقصصه التي كان يحبها ,ولا أعلم لماذا كنت إنا أكرهها تجعلني قاتلا,أمضي بقية عمري في السجن, لفت جنازة برزان بالعلم الوطني ودفن في مسقط رأسه وأمر ضابط المراسيم  بعد الدفن الجنود برفع فوهات بنادقهم نحو السماء وإطلاق الرصاص في زفة الشهيد وتتحقق أمنية (برزان) التي راودته منذ الصغر حيث كان يلقب نفسه بالشهيد, ومن يومها أمي تشعر بالخوف, وتقول: يا بني يا ليتنا أسميناك باسم آخ, يا بني: لا تتكلم بلغتك , يا بني نفذ ما يطلب منك بعد كل هذه الذكريات عن برزان وما رافقها من بكاء ودموع,  لم أشعر إلا وأنا أدهس بحذائي العسكري على آخر عقب سيجارة من علبتي, أراقب مع خوفي شمعتي التي يصغر حجمها ويخفت ضوئها شيئا فشيئا, جاولت البحث في جيوبي الكثيرة عن محرمة لمسحي الدموع, ولم ينتهي البحث حتى شعرت بيد معلمي من الخلف تشد على كتفي, أربكني الخوف التفت إليه رفعت يدي لتقديم التحية, أردت أن أخفي الشمعة بدهسها أثناء خبط رجلي الأيسر بالأرض ,شعرت بصرخة من الأعماق تناديني وتقول لي: لا تفعل  تغلب على خوفك وتقبل النتائج أيا كانت,تحولت حينها إلى كرة ثلج جامدة هامدة ,بقي يدي الأيمن ورجلي الأيسر مرفوعين مجمدين وأصبحت كهيئة تمثال عسكري في وضعية أداء التحية, انتبه الضابط إلى حالتي شد على كتفي بحرارة ونظر إلى شمعتي, وابتسم قائلا :كل عام وأنت بخير,وقبل أن يغادر طلب مني مراجعة مكتبه حين انتهائي من نوبة الحراسة , لم أصدق ما سمعت, مرت المدة الباقية ببطء شديد فالخوف ما زال هو سيد الموقف أفكار سيئة تراودني ولكن لا مفر,أنهيت المهمة وتوجهت صوب مكتبه, طرقت الباب وبعد الدخول لم يمهلني الفرصة لأداء التحية كرر تهنئته دفع لي بورقة إجازة لمدة عشرة أيام وهو يقول حيث  يا بني أنا أسكن في حارة الأكراد(ركن الدين) بدمشق وعائلتي تقوم مع الجيران بإيقاد الشموع كل عام والخروج معهم في اليوم التالي للاحتفال بالعيد كلنا يا بني أبناء هذا الوطن, وهذه الأعياد يجب أن تكون للجميع,أمر سائقه  كي يوصلني إلى الكراج قائلا له: أن الوقت ضيق أوصله حتى يتدبر أمر سفره ويحتفل بين أهله, لم أصدق, خرجت طائرا بجناحين وصلت إلى دمشق  صعدت البولمان وطيلة الرحلة كان الناس سعداء ولكني كنت أكثرهم سعادة وتلهفا للوصول لم يكن جهاز التلفاز في البولمان كالعادة يعرض لنا أفلاما مصرية, أو أجنبية, أو أغاني شبابية,كانت الفضائيات تبث الأنباء عن فرحة الشعوب بالثورة التونسية والمصرية وأخبار الثورة البحرينية واليمنية والليبية وكلها تؤكد إن إرادة الشعوب تظل تنتصر في النهاية على الظلم والاستبداد مهما كان جبروت الطغاة.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.91
تصويتات: 12


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات