القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: النرجسية والشهوة المتوحشة

 
الأحد 26 كانون الأول 2010


إبراهيم محمود

تحيلنا المرآة على الإنسان، باعتبارها عدَّادة فعل الزمن فيه، لا ليكون المرئي لنفسه مأخوذاً بإطلالتها فقط.
لا تكوُن المرآة بقدر ما تتكون تلبية لرغبات، وهي في تنوع أشكالها ومكوناتها تبعاً للشخص وموقعه. إننا إذاً بصدد مرايا تراتبية، متفاوتة، تتناسب وثقافة المجتمع، وما يشار هنا إلى مرآويته أو ما ينظَر إليه في الداخل.‏
وحده الحيوان بعيد عن المرآة، إنه لا يحتاجها لأنه واحد ثابت، ببساطة لأنه يعيش حيوانيته دفعة واحدة وهي متوارثة وتصل ما بينه وبين مثيله في خانة النوع الواحد. المرآة تترجم التنوع والاختلاف والترقب لفعل المحيط، بينما الحيوان فهو مولود في بيئته لا فاصل بين داخله وخارجه، إنه كلية عضوية وغريزية معيَّنة بعلامة بهائمية.‏


لكن الحيوان لم ينقطع عن المشاهدة من قبل عاشق المرآة، المنشغل بها، أبعد مما هو نرسيسي في علاقته بالماء، وهو دائم التحول أو التبدل، هش، مرهوب الجانب معاً، يشير إلى الهشاشة الفاعلة في المنعكس وجهه في الماء.‏
مثلما أن الحيوان لم ينفصل عما هو إنساني وهو موضوع له فيما يرسمه ويكون مضرب مثل له ويعينه في إملاء فراغات كثيرة أو مهرها برموز، لا بل وفي حسن تكييفه مع الطبيعة والكون وهو مقدَّم قرباناً له وبديلاً عنه، ويستعار باسمه فيما يتمثله عملياً أو رغبياً وحتى فيما هو مخبري يكون منذوراً لتجاربه وتطلعاته المستقبلية.‏
لقد شكَّل كل ذلك موضوعاً أثيراً فائق الوصف بالنسبة إلى الفنان وهو يعني به دلالياً في الأثر الجمالي عنه، والشاعر الذي يستشعر عمقاً آخر وانتماء مغايراً لكونه من خلاله، والمفكر في وضعه وكيفية تسيير شؤونه أكثر من غيره.‏
وهذا ما نتلمسه حديثاً، ليكون عنوان «الحيوان في المرآة» مكاشفاً لما يتعدى العنف الحيواني داخل المنهمّ به.‏
في المرآة إذاً‏
بين أن نكون سماويين في تحديد معين لنسَبنا البشري، وأن نكون أرضيين فيما نعيشه ونتفكره، فإن في الحالين ثمة سلسلة هائلة الحيوانات تتوسطنا أو تحيط بنا أو تكون في مرمى أنظارنا، على الأقل عندما نتحرى حقيقتنا عبر الحية الثرية بدلالاتها عالياً، والهولة الأسطورية، رمز الشر «اللوياثان» هي الحية المركَّبة ثقافياً في تاريخنا.‏
الحيوان مغاير للإنسان، مستبعَد عن دائرته القيمية، موصوف بالتوحش والافتراس، مذموم، لكنه مستدعى داخل اللغة، وأهليٌّ، وملاحَق، وممثَّل به، ومرهوب الجانب، ومرغوب فيه... كيف تكون ثقافتنا دونه، لا بل نحن؟!‏
إن دراسة تاريخ الحيوان ممتعة ومريعة هنا بنتائجها، ومثير هذا الحيوان فيما لو امتلك لزمن قصير جداً، إمكانية تدوين تاريخه وصلته هو بنا كبشر، وتبيَّنا طريقة كتابته وفصولها، لهالنا المذكور باسمه، هالتنا تعابيرُه في تقويم عضوياتنا، ومن يكون الأولى بالمحاكمة والتمثيل حرصاً على الكوني والطبيعي كما تواجهنا به مرآة الحياة.‏
يتحدث جورج باتاي في كتابه «نظرية الدين» رؤية فلسفية»، الترجمة العربية/2007»، إلى ذلك التناسب بين وظائف الطبيعة حيوانياً، حيث إن حيواناً يلتهم حيواناً آخر، أو «ينال» منه، بتعبيرنا، إنما هو الدور المعطى لكل منهما، وليس لأن وحشية موصوفة تحيل أحدهما إلى ضحية للآخر، فكل تعبير عما يجري يعنينا نحن، وليس الحيوان وإلا لتوقفت الحياة في الطبيعة «لا شيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد بالعبد، لا شيء بإمكانه إقامة الاستقلالية من جانب والتبعية من الجانب الآخر..ص 31». يعني ذلك أن الحديث عن الحيوان لا يكون بمقاييسنا الخاصة، لأن التنوع غير قائم بالنسبة إليه، فهو لا تاريخ له إلا على صعيد طريقة النشأة وفيما يخص علامات فارقة فيه تصل أوله بآخره، ولا تنافس بينه وبين سواه من فصيلته أو خارجها، إنها إحالات عائدة إلينا، وأن نسقط على الحيوان ما يشغلنا فلكي نوسّع دائرة تهربنا من مسؤوليتنا الجنائية والأخلاقية تجاهه.‏
ما يكونه الحيوان للحيوان هو أبدي دون وسيط، دون تحويل فيه. إن نيئية اللحم الحيواني للآخر لحظة التمكن منه، لا تعني أكثر من كونها الصلة الطبيعية بين طالب ومطلوب، وفق نظام طبيعي، وأي تغيير في النيئية يعني أن ثمة تعدياً على النظام، أن تصريفاً في العلاقة يتجاوز مفهوم «النيئية»، حيث إننا نتناول اللحم متنوعاً: نيئاً متباهين بالتناظر الحيواني أحياناً، ومطبوخاً أو مشوياً بما يميزنا «والحيوان المأكول لا يمكن طرحه كموضوع إلا شريطة أن يؤكل ميتاً. وهو ليس شيئاً تماماً إلا في شكل لحم مشوي أو مطبوخ..ص 57».‏
نعم الحيوان موضوعنا ونحن نضرب حوله سوراً بدعوى حمايته، ممن؟ منا! كيف ونحن من يتهدده؟ إن حديقة الحيوان ليست أكثر من إعلان عن وحشية غير مسماة داخل المدينة، ومحمية الحيوان لا تعدو أن تكون صندوق الفرجة المأثور وبشكل أوسع، ليكون الطري الجلد هذا، القرد العاري في خانة اتهام الآخر ذي الأربع تماماً.‏
في كتابهما المشترك «ما هي الفلسفة، الترجمة العربية،1997» لدولوز - غتاري، ثمة تركيز على صلتنا بالحيوان وهو في تنوعه اللحمي: كطَعم، كرائحة، ونوعية شهية كامنة، هي خطاب شمّي نافذ، يقوم على المكتسَب مما هو حيوي أو طبيعي عن طريق الحيوان، بدءاً من الفن وانتهاء بدلالات الرؤية المباشرة للحيوان ومدة بقائه بيننا وهو في تنوعه، يكون اللحم مسمّياً إياه وهو في تحولاته مذاقياً وقيمياً «ليس اللحم إلا ميزان حرارة للصيرورة..ص187»، لكنه اللحم الحيواني الذي علَّمنا الكثير مما يخصنا فيما نأكل ونشرب ونستمتع عبره.‏
إن تاريخ رصيد الحيوان الرمزي فيما أتحفنا به، وأمكننا من اكتشافه لا يحاط به، إن لحمنا غير المهضوم، لحمنا المر، متوار ٍ وراء قيمة اعتبارية، لكنه ينزع عن عظمه أو يستمرأ هنا وهناك، في تنافس مع ما هو حيواني، دون النظر في الفارق الكلي القائم بيننا وبينه. الحيوان منزوع النوعية، في الوقت الذي يصار ترميز نوعه ووضعه في إهاب رقم لاصق يشير إليه وهو تحت مراقبة الإنسان، بدعوى دراسته النوعية وحمايته، بينما الإنسان المعتز بنوعه فهو لا يكف عن تهديد بعضه بعضاً، دون الإعلام عن الإساءة المدمرة إلى عموم المحيط الحيواني وسواه.‏
إنه العلم بما يعمَل به وقد جرى تسفيهه إنسانياً، حيث إن الإيديولوجيا الحيوانية النشأة تتفاقم بذيولها الكارثية، وتقزيم دور الحيوان المعتبَر سابقاً، ليكون مرئياً عن قرب مسحوباً من قوته الطبيعية، ليكون شاهد إثبات أخرس على ما هو تدميري إنسانياً من خلال التعريض المنظم به هنا وهناك، نعم «كان على حيوانات الركوب أن تعمل لخدمة الإنسان. والمطلوب من حيوانات المختبر أن تجيب عن تساؤلات العلم. أما حيوانات الاستهلاك فقد أصبحت اللحم الصناعي..»، كما يقول بودريار ما بعد الحداثي، في كتابه «المصطنع والاصطناع، الترجمة العربية، 2008، ص 208».‏
لسنا هنا إزاء الناشدين لسلامة البيئة، وفي المتن ما يلغمها أو ثمة من يستمتع بأصوات انفجارات تغيّر في رائحة هوائها، وبنية مكوناتها الطبيعية، ومفهوم الحياوة في مجالها الجغرافي، بما تم اصطناعه وابتداعه تدميرياً.‏
إنها الوحشية التي لم تدرَّس كما ينبغي، وحشية الكائن الغابي الفعلي. إن قانون الغاب يعفي الإنسان من تعقب فعل غرائزه المسمومة والشديدة السمّية، ويمد بالنظر إلى داخل معتم، يتطلب إشرافاً، بينما على الصعيد الإنساني فثمة غاب لامرئي لكنه مرئي فيما يمارَس داخله من صنوف إبادات وعنف دموي، وفي اللحظة الفائقة لصحوة الضمير، يجري استخدام الحيوان الوحشي، كما لو أن المسؤولية تمت بوحشية ذوات الأربع وعلى حين غفلة.‏
إنها الحاجة إلى تنوير مفهوم الوحشية التي تعنينا دون الحيوان، وما يذهب إليه جاك دريدا إلى قوله يفيدنا في حوار معه في كتاب «حوارات ونصوص، الترجمة العربية،2006»، وهو «إن الشهوة متوحشة وكذلك الكلام. لكنني أجد ما يُصنع بالدواجن والعجول أو الخنازير في الأماكن التي تربَّى فيها وفي المذابح أمر مقزّز تماماً.ص161».‏
هل يحتاج الأمر إذاً إلى وصاية مختلفة على الإنسان وهو في تهديده النووي «الكينغ كونغي» المتعدد المقامات؟‏
إنه السؤال الذي لا يبدو أن جواباً ما قد يصلح للأخذ به، وطمأنة النفس على أن ثمة إنسانية واعدة في المدى المنظور، سوى أن الذي يلهمنا مما هو حيواني يحثنا على التفكير في طريقة عصيان الإنسان على قانونه الحيواني، ونصب نفسه سيّد المخلوقات. إن طارد الحيوان ليس أكثر من طريد إنساني يقوّض نوعه تدريجياً!‏
ملحق الثورة الثقافي
21 / 12 / 2010

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.68
تصويتات: 19


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات