القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: تدمر: مشروعٌ تنمويّ بمفاتيح ثقافيّة

 
الثلاثاء 24 تشرين الثاني 2009


د.آزاد أحمد علي   

دفعت آليات التطور الطويل الأمد للعمران البشري في البادية السورية، وكذلك تنامي الحاجات الاجتماعية، باتجاه التمركز والانتظام العمراني. وكان موقع تدمر الحالي أحد أفضل الأماكن التي تتمتع بخصائص مكانية متميزة. مثل وجود نبع للماء العذب، وافر الغزارة، هو نبع أفقا. إضافة إلى وجود واحة كبيرة، وسلسة جبال تحيط بالموقع الذي نشأت فيها تدمر الأولى. كما زاد من فرص ولادة تدمر (الحاضرة) تمركزها ضمن سهول زراعية ومراع خصبة مترامية الأطراف وشاسعة المساحة.


منذ ولادة وانبثاق النواة الحضرية الأولى في تدمر ظهرت عوامل جديدة دفعت باتجاه تشكل مدينة كبيرة ومميزة. وكان في مقدمة هذه العوامل قدسية المكان، فالمكان احتضن منذ مراحل مبكرة رموزاً دينية ومعابد عديدة، وبذلك تحولت تدمر الأولى إلى مركز للحج وممارسة الشعائر الدينية للقبائل العربية والآرامية، خاصة في الألف الأول قبل الميلاد. وبالتوازي مع الوظيفة الدينية تحولت إلى سوق لرقعة جغرافية وعمرانية واسعة، خاصة مع ظهور فائض المنتجات النباتية والثروة الحيوانية في الإقليم المغذي للمدينة. حتى اكتسبت تدمر صفة حضرية جديدة فتحولت إلى مركز لمرور وانطلاق القوافل التجارية، وباتت عقدة طرقية ومحطة تجارية كبرى وأساسية بين الشرق ممثلاً بحضارات (الصين والهند وإيران) والغرب)اليونان والرومان وصولاً إلى إسبانيا). لقد ورثت تدمر التجارة البحرية عن الفينيقيين والبرية عن الآراميين. وقد تأكد وتوثق لاحقاً دور تدمر التجاري في العالم القديم باكتشاف أول قانون ونظام مالي للتجارة فيها، وهو أقرب ما يكون إلى قانون الجمارك، دُوّن على حجر كبير، وهو محفوظ حالياً في متحف موسكو.
تشير الدلائل الأثرية والمعطيات التاريخية إلى أن بادية بلاد الشام هي من أقدم مواقع استقرار الإنسان البدائي وسكنه, وربما كانت أول منطقة تظهر فيها التجمعات البشرية الأولى.
ويعود ذلك على الأرجح إلى بيئتها المناسبة ومناخها الدافئ الرطب في العصور الحجرية الأولى، لقد كان مناخ بادية بلاد الشام الفضاء الجغرافي الأول الذي احتضن مجموعات الصيادين الأوائل، إذ هيئت لهم ظروف المعيشة والاستقرار، ومن ثم ابتكار بيئة عمرانية أولية على شكل أرياف وتجمعات سكنية بسيطة، وبرزت هذه التجمعات بشكل واضح في منطقة الكوم.
إن بدايات نمو تدمر المدينة تعود إلى تضافر جملة من الظروف والمحفزات البيئية والاجتماعية الملائمة، وذلك بمقياس العصور الحجرية، وخاصة بيئة بادية بلاد الشام الغنية. 
إذ تضافرت العوامل السابقة لتبرز تدمر كمملكة مستقلة وذات شخصية محلية وهوية ثقافية مميزة منبثقة من الجذر التاريخي للمكان - البيئة الاجتماعية الخاصة والفريدة.
 وعندما اشتدت حدة الصراع بين الشرق ممثلاً بحضارات إيران وبلاد الرافدين، والغرب ممثلاً بحضارات اليونان - الرومان على المنطقة عموماً وتدمر خصوصاً، انتهى الصراع بالسيطرة اليونانية - الرومانية على سورية ومناطق شرق وشمال بلاد الرافدين. وأحكمت قبضة الغرب على تدمر وسادت النزاعات وتنامت نشاطات كولونيالية إغريقية مبكرة, فأنشئ العديد من المدن ذات الطرز اليونانية - الرومانية في سورية، وكانت أبرزها تدمر.
لا يمكن الافتراض أن تدمر المدينة بدأت يونانية واستكملت رومانية دون الاعتماد على تراثها العريق وجذرها الحضري - العمراني الموغل في القدم. فتدمر المعجزة المعمارية هي نتيجة وحصيلة تضافر وتفاعل مجمل تراث الشرق العمراني والمعماري مع النظم العمرانية اليونانية - الرومانية، كما كان لاستقدام العديد من الخبرات الفنية والمهنية إليها خاصة في مجال النحت والبناء بالحجر وتخطيط المدن الدور الأهم في صياغة السمات العامة للمدينة.
إن توافر مادة الحجر الكلسي القاسي في الجبال الغربية من تدمر وجودة نوعية هذه المادة قد ساهما كثيراً في حفظ تراث تدمر المعماري إلى يومنا هذا.
لقد أبرزت تدمر إبداعات العمارة الرافدية والسورية القديمة بحلة جديدة، وكان نتاج هذا التفاعل والتواصل العديد من المنشآت المتميزة، وخاصة معبد (بل) الذي يعد أحد أكبر المعابد في المشرق، بمساحة تتجاوز أربعين ألف متر مربع، وتتسع لأكثر من عشرين ألف شخص دفعة واحدة. وهي تشكل من الناحية الفنية تجسيداً لتراكب السمات والطرز المعمارية وتداخلها بين المشرق والمغرب. كما أنه من المعابد النادرة في تصميمه ووظيفته وإحاطته بجدار شاهق الارتفاع، وهو من المعابد القليلة ذات صحن سماوي كبير يتوسطه معبد مركزي صغير نسبياً.
وفي المحصلة أصبحت تدمر في أوج ازدهارها وجمالها وفاعليتها الاقتصادية والثقافية إحدى أهم مدن الشرق وربما العالم، خاصة إبان حكم الأسرة السورية. فأشار إلى ذلك المؤرخ فولني الذي زارها في القرن الثامن عشر، وكانت تدمر مازالت محتفظة بالكثير من ملامحها الأصيلة حينئذ:
)يجب أن نعترف بأن كل ما خلفه اليونان والرومان لا يوازي عظمة تدمر وبهاءها)
لكل ذلك تعدّ مدينة تدمر إحدى أهم المدن النمطية للمرحلة الرومانية من حيث التخطيط ووجود الشارع الرئيسي الذي هو عصب نشاط المدينة، بكل ما يحيط بالشارع من أعمدة وأروقة وكذلك ما يرتبط بها من منشات عامة كالمعابد والمسارح والمحال التجارية والحمامات.وفي الوقت نفسه تعد تدمر أكبر مدينة تراثية سورية تحتفظ بشكلها الأصلي وتعبر عن الإبداع الهندسي السوري المركب. ودون الخوض في التفاصيل العمرانية والخصائص المعمارية للمدينة التي مازالت قائمة وتعبر عن جمال معماري وفني قل نظيره في العالم، فأجزاء المدينة الباقية تشهد على الإبداع والأصالة والديمومة. وهي لذلك مشروع ثقافي منجز بذاته وينتظر التوظيف.
أما الموضوع الذي يفرض حضوره اليوم ويستحق المزيد من الاهتمام والاشتغال فهو كيفية استثمار هذا التراث المعماري الفني العظيم وتوظيفه وإدخاله بموضوعية في عمليات التنمية الثقافية - الاقتصادية والاجتماعية.
وكيفية استكمال النشاط الذي قامت به الجهات المعنية كالآثار والمتاحف والسياحة والنهوض به لتفعيل دور مدينة تدمر المعاصر، وتوظيفها من جديد في مشاريع التنمية المستدامة.
فمن المفيد في سياق الرؤية الاستراتيجية لتوظيف تدمر في التنمية العمرانية والاجتماعية المستدامة أن تقترح ونذكر بالمحاور والقطاعات التالية:
 1- - إعادة تحديد إقليم البادية وجعل تدمر المدينة مركزاً إدارياً واقتصادياً واجتماعياً لها، وذلك باستحداث محافظة البادية وعاصمتها الإقليمية تدمر.
2-- ترحيل أهم النشاطات الثقافية والأدبية والفنية إليها وحصر النشاطات التراثية والأثرية والفلكلورية فيها قدر الإمكان، مثل عقد مؤتمرات تاريخية دورية, إقامة معارض فنية وأثرية.
3- - استحداث كلية للآثار وعلوم التاريخ فيها. ويستحسن أن يُنشأ فيها أيضاً معهد لتعليم فنون النحت والبناء بالحجر، وترميم الآثار.
4- - إعادة تنظيم العمل السياحي فيها وتوسيع السياحة الثقافية والبيئية، عن طريق استقطاب المزيد من المشاريع وتشجيعها ودعمها مالياً، وتقديم التسهيلات للمستثمرين وللقادمين إليها والراغبين في السكن والإقامة الفصلية أو الدائمة في ربوعها. لتتحول إلى مدينة جاذبة للسكان.
5- - المحافظة على البيئة الرعوية المحيطة، وذلك بتوسيع المحميات القائمة، وتوسيع وتكثيف رقعة الغطاء النباتي، وزيادة أعداد الأشجار المثمرة المزروعة، وخاصة الزيتون والنخيل.
6- - استقطاب العاملين في العمل الزراعي وتربية المواشي إلى البادية وتقديم الدعم لمشاريع الحرف والصناعات المرتبطة بالثروة الحيوانية وخاصة تربية الإبل والماشية وتصنيع الأصواف والبسط والسجاد.. إلخ.
7- - تنفيذ مشروع المطار المزمع إنشاؤه في تدمر لربط المدينة بالمدن السورية البعيدة، وكذلك بالدول العربية والعالم.
8- - تأمين مصادر للمياه العذبة، ومصدر سقاية للفعاليات الزراعية والرعوية، وذلك عن طريق استثمار المخزون المتوافر من المياه الجوفية، وكذلك جر المياه من نهر الفرات (علماً أنه قد أنجزت الإضبارة الفنية لمشروع جر مياه الفرات إلى تدمر مؤخراً).
9- - تأمين مصدر للطاقة النظيفة للمدينة ومحيطها، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
إن إطلاق مشروع تدمر وإقليمها بدءاً بهذه المقترحات وغيرها مما يستجد، يشكل إحدى الخطوات الجادة لتوظيف التراث الثقافي الوطني في مسائل التنمية العمرانية المستقبلية. والخوض في التجربة هو بجد ذاته تغير في نمط تفكير المخطط ومنهجه، وإعادة اكتشاف للمخزون والثروة الثقافية الهائلة في سورية، وذلك ابتداء من تدمر الكنز. 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.5
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات