القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: الشباب في عالم الأطراف والعولمة

 
الأثنين 09 تشرين الثاني 2009


خالص مسور

الفرد هو دوماً نتاج ثقافة معينة، فهو يختلف بهذا عن أفراد آخرين ينتمون إلى ثقافات مغايرة، وتشكل الثقافة ركناً أساسياً في تكوين ملامح شخصية الفرد الإعتبارية، فالثقافة القومية بشكل خاص ترسخ لدى الفرد الذي ينتمي إلى قومية معينة، جملة صفات مشتركة مع بني جلدته، منها وحدة الأنماط السلوكية والسيكولوجية ومباديء ومشاعر وخصائص نزوعية موحدة، تنمي الشعور إلى مجتمع معين...الخ. 
بينما العولمة ويقابلها بالإنكليزية)    (Globalisation وفي الفرنسية (Mondalisation)   تقابلهما الكلمة العربية الكونية، الكوننة،العالمية، الكوكبية، الشمولية...الخ.


هذا المصطلح الجديد لظاهرة جديدة، يفيد - على مانعلمه اليوم- محاولة لفرض ظاهرة أو نمط ثقافي، اجتماعي، سياسي، اقتصادي شامل على الدول النامية، وفق مفاهيم ومنطلقات الدول والمجتمعات الغربية، وبالأخص مفهوم الولايات المتحدة الأمريكية عن الظاهرة، بغية تغيير بنية وركائز المجتمعات التاريخية لدى شعوب العالم قاطبة وبدون استثناء، أو هو فرض لنمط حياة المركز على الاطراف، حسب تعبير المفكر الدكتور(سمير أمين). رغم أن تعبيره قد يفتقر إلى الدقة لأنه يغفل تأثيراتها على شعوب المركزذاتها.
ويعرف محمد عابد الجابري العولمة بقوله: (ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي، بل إنها أيضاً وبالدرجة الأولى دعوة إلى تبني نموذج معين(...)، إنها تعكس مظهراً أساسياً من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، بل هي أيضاً إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته)(1). أما (إلفين توفلر) فيعرفها بقوله: ( هي المعرفة التي تعمل على توفير الوقت والمكان،سواء في أماكن التخزين أو وسائل النقل،وفي سرعة التوزيع، والإتصال بين المنتج والمستهلك)(2).
فحقيقة الأمر أن العولمة ومايرافقها من غزو ثقافي - وبعكس العالمية-  هي ظاهرة ترقى إلى مستوى فرض نوع من الرأسمالية اللاأخلاقية والمتوحشة على العالم، وأقصد باللاأخلاقية من ناحية مؤثراتها الطاغية على معيشة الإنسان والقوة العاملة بالدرجة الأولى، وتحول الإنسان العامل إلى مجرد آلة جامدة من آلات الإنتاج الرأسمالي، فالعولمة – والحال هذه- وما يرافقها من نمطية ذات عمومية وشمول، قد بدأت بالشعوب والأقليات في المركز قبل الأطراف، وظهرت بوادر رفضها من قبل الشعوب المستضعفة وممن تضامنوا معها من الشعوب الأخرى، كما جرى في مظاهرات، سياتل، وكوبنهاغن، وكوريا الجنوبية...الخ. علماً – وكما قلنا- أن العولمة ليست واحدة بل هناك عدة عولمات إقتصادية، وسياسية، وعسكرية كما هو حاصل في العراق اليوم.
ويعتقد البعض أن العولمة كانت النموذج السائد في علاقات الشعوب مع بعضها، منذ العهود السحيقة في القدم، ولكن اختلفت التسمية ووسائل نشرها وامتداداتها عبر البلدان والأوطان، والعولمة الحديثة أخذت صداها من طريقة انتشارها عبر وسائل الإتصالات المختلفة، كشبكات الإنترنيت، والأقمار الصناعية، والفضائيات، والهاتف، والصحف والمجلات، والتكنولوجيا الحديثة...الخ. وهو ما قد يؤدي – بل من المحتم أنه سوف يؤدي- إلى قطع روابط الإنسان مع ثقافة مجتمعاته وتراثه الذي هو حصيلة جهد بشري متواصل، حافظت فيه الشعوب على خصوصيتها وهويتها المتفردة طوال قرون مديدة.  فقد تعرضت شعوب المنطقة والأكراد في كل مكان من بلادهم، لرياح العولمة والتغيير في فترات عديدة ومتباعدة متواصلة، تمثلت أولاً في الفترة التي سادت فيها الإمبراطورية الآشورية، تلاها الفترة الهيلينستية بثقافتها اليونانية الوافدة مع جيوش الأسكندر المكدوني خلال النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد، ثم فترة الغزو الروماني العسكري في حوالي العام 64 قبل الميلاد، ومارافقه من انتشار مفاهيم الحياة الرومانية التي أثرت ولو جزئيا على الإنسان الشرقي عموماً. ألا أن العولمة الثقافية قد تكون الأشد من بينها تأثيراً وخطراً وحساسية على تراث الشعوب وحضارتها.
فالعولمة ظاهرة إقتصادية بالأساس ولكن هي ثقافية أو إمبريالية ثقافية بقدرماهي اقتصادية، أي أنها ثمرة الرأسمالية المتوحشة، لها ماضيها، وركائزها، وتطورها وسيرورتها التاريخية المستمرة. ومن هنا سنركز في محاضرتنا هذه على الجانب الثقافي وتاثيرها على بلدان الطرفية أو بالأصح ما ندعوه بالغزو الثقافي للشعوب والبلدان الطرفية بالنسبة للمركز الأوربي والغربي عموماً. فمنذ القديم كان هناك ثقافة المركز والأطراف مثلا، ثقافة بلاد الرافدين المركزية وثقافة الأطراف المجاورة لها، أو الطرفية ومركزية الحضارة الفرعونية لما حولها من دول وشعوب...الخ.. ولهذا نقول أن التحول العالمي اليوم نحو سياسة القطب الواحد متمثلة في الغرب والولايات التحدة تحديدا، والتي لم يبق أمامها من منافس بعد انتهاء الحقبة السوفيتية، أدى الى استئساد الولايات المتحدة في العالم محاولة تسييد ثقافتها على الشعوب الطرفية بل العالم جميعه على شكل ما نعرفه بالغزو الثقافي المعولم، عن طريق تأسيس ماندعوه بآليات الاستيعاب الثقافي، ليصار إلى نشر ثقافتها الغربية بالكامل نحو الشعوب الطرفية المتأخرة ثقافياً.
فنحن كشعوب عالمثالثية معرضون للعولمة وجميع مفرزاتها وخاصة ماندعوه بالغزو الثقافي، والذي هو موضوع دراستنا الآن، أي أن هناك طرف أو دول غربية كبرى وبالأخص الولايات المتحدة الامريكية، تريد إقصاء الآخرين واستلاب عقولهم وتراثهم وتركهم شعوبا تابعة بلا ذاكرة ولاتاريخ، نستجدي أخلاقياتهم الامريكية وأنماط حياتهم التي لاتناسب وبيئتنا الشرقية والعالمثالثية عموماً، ووسيلتهم في ذلك هو ما دعوناه بالغزو الثقافي الذي هو أخطر بكثير من الغزو العسكري أوالجيوش والإحتلال المباشر، لأن من يفقد تراثه وتاريخه وثقافته فسيفقد حتماً شخصيته وهويته المتميزة. وقد قال أحدهم من ليس له ماض ليس له مستقبل.   
ولهذا يقول أحد المتأمركين ومن منطلق نظرة استعلائية وهو ديفيد روثكوف: (إن الثقافة الأمريكية تختلف جوهرياً عن الثقافات التي هي بنات بيئاتها، في العديد من المجتمعات الأخرى، فالثقافة الأمريكية........تسمح بازدهار الحريات الشخصية والثقافات)(3).  والهدف - كما قلنا- من وراء هذا القول واضح، وهو التمركز حول مايسمى بالإمبريالية الجديدة، وإلغاء ثقافات الأمم وتراثها من جذورهما، وتلقينها ثقافة غربية زائفة تطال حتى المأكل والملبس، أي أن الغزو الثقافي الأمريكي يريد من العالم جميعهم أن يكون لهم زي واحد بلون واحد، ويعيشوا بطموحات واحدة، وفكر واحد، ونمط حياة واحدة، وأن يأكلوا بصحن واحد هو الصحن الأمريكي(4). وذلك لكي تبقى الشعوب بدون ذاكرة ولاتاريخ، ولتركع أمام أقدام الغرب وثقافته ورأسماليته المعولمة التي وصفناها بالمتوحشة. و باختصار فإن العولمة وما يرافقها من غزو ثقافي غربي هي في المحصلة أمركة العالم ونهاية الجغرافية، أي التنقل الحر وإزالة الحدود والحواجز بين الأمم. ووسيلة هذا الغزو- كما قلنا- هي وسائل الاتصال والمحطات الفضائية والشركات المتعددة والمتعدية الجنسية، والقوة العسكرية الكاسحة كما حدث ويحدث في العديد من البلدان ومنها العراق اليوم. والوسيلة الاخطر والأكثر انتشاراً اليوم هي بالأخص الإنترنيت والمحطات الفضائية حينما تنشر أفلام الرعب والمغامرات ومشاهد ولقطات مشبوهة وصور جنسية فاضحة تثير الأنانية والغرائز، لتلقين الشباب العالمثالثي ثقافة مشوهة مستوردة بعيدة في مفاهمها عن القيم والثوابت الوطنية، عاملة على حمل الشباب على الركض وراء الفضائيات الأجنبية والثقافة الكوسمويوليتية، والإبتعاد عن كل ما هو وطني على اعتبار أنه منتوج لايرقى إلى مستوى النتاجات الاجنبية، ثم زرع الإثرة والفردية والخواء الفكري لدى هؤلاء الشباب، وإلهائهم عن قراءة الكتب الجادة والرصينة وتقديم الحاهز والشفاهي الضحل، وترغيبهم في تقليد هذه السلوكيات المحرفة، لعلمهم أن البعض من شبابنا الذين تملكهم الانبهار بالثقافة الغربية، لديهم الرغبة في تقليد ومحاكاة هذه الثقافة العدمية (النهيليستية). وفي الغزوالثقافي كذلك يصار إلى تحييد الدول القومية عن طريق الاستقلال النسبي للشركات عنها، ووجود مؤسسات عالمية مستقلة عن الدولة القومية، حتى تغيب هذه الدول عن مسرح الحياة الإجتماعية، وهي التي تقوم اليوم بتأمين الضمان الإجتماعي، ودعم المواد الغذائية، والدفاع عن حق العامل وقضياها القومية. وإزاء كل هذا لم تكن الممانعة الثقافية لدى شعوب هذه الدول غائبة عن المعترك الثقافي، تمثلت الممانعة في رفض العولمة المتوحشة والاستعمار، مثل الإحتجاجات التي شاهدناها في العديد من المراكز التي عقدت فيها الإجتماعات الإمبريالية الجديدة أقطاب العولمة والغزو الثقافي(5).
وفي رأيي أن العولمة – في هذه الحال- ليس غزوا ثقافياً فقط، بل هي دعوة لتدمير الماضي التاريخي للشعوب العالمثالثية بشكل خاص، لأن هذه الشعوب هي التي يجدها المستعمرالمنافس والمناهض الوحيد لتطلعاته وطموحه وآماله في السيطرة على العالم. وقد تجسدت محاولات السيطرة تلك في الغزو الثقافي في جانب منه في مقولات مابعد حداثية، كموت المؤلف، وبروز دور القاريء والمتلقي في النص الأدبي، وموت الله والإنسان، ومابعد الدولة وانفتاح التاريخ الإنساني على الإحتمالات المتعددة، ورفض النموذج الماركسي للتاريخ أي تقدمه وتراجعه، والقول بتقدم التاريخ على خط صاعد، والتركيزعلى حركة الحياة اليومية، ونبذ الخطط الاقتصادية والقول بالعفوية للتطور وتقديم المصالح الفردية على الجماعية، وتغييب دور الإيديولوجيات والقومية وتحطيم ثقافة الأمم والأعراق، حيث بنت هذه الشعوب ثقافاتها بكدحها وشقائها خلال مئات من السنين. والعمل بدلاً منها على نشر ثقافة القطب الواحد الذي حاول ويحاول الإستئثار بمتجات هذا التراكم العالمي المشترك للثقافة ونسبتها الى نفسه فقط، عن طريق لي عنق الثقافات الإخرى، ودس ثقافتها الخاصة محلها لتصبح عولمة بدلاً من العالمية، لصالح الغرب وأمريكا. فكان – والحال هذه- لابد للبلدان الطرفية وشعوب العالم أجمع من مواجهة هذه العولمة الراسمالية المتوحشة وغزوها الثقافي المعولم، والدفاع عن حقوق الانسان وكرامته واللجوء الى الشعوب لحماية مكتسباتها والدفاع عنها أمام هذا الغزو الثقافي الأمريكي، ومقولات موت الانسان بالعودة الى قيم التنوير والعقلانية والديموقراطية الحقيقية قولاً وفعلاً، ومحاربة الإستبداد الأمريكي وفكرتها عن صراع الحضارات، واستبدال المقولة السجالية بمقولة حوارالحضارات حسب قول الرئيس الإيراني الأسبق (علي خاتمي الخاتمي). وقد بتنا نرى اليوم دولة كبرى بمقياس فرنسا ذاتها تتبرم من العولمة الأمريكية، وتطلق صرخة الإحتجاج ضد المطاعم الأمريكية فيها.
فالثقافة - وكما هو معروف- تتشكل في إطار وعي الأمة لذاتها إن فقدتها الأمة فقدت ذاتها، ولهذا يمكننا القول بأن الغزو الثقافي عن طريق العولمة هو أحد اشكال السيطرة الغربية والأمريكية المركزية على ما سمي بالبلدان الطرفية. حيث في يقين الغرب اليوم أن النقطة الوحيدة التي يمكن أن يأتي منها التحدي له هي المنطقة الشرق أوسطية بقومياتها المتعددة التي تابى الخضوع للأجنبي، ومن هنا كان إطلاق العنان للغزو الثقافي الغربي والأمريكي للمنطقة العربية وللعالم ككل. ولهذا كان لابد من نسف جذورهذا التحدي للغرب من أساسه بالقضاء على تراث وثقافات الشعوب، وقد نلمس اليوم مخاطر الغزو الثقافي على هوية الشعوب وعلى الدولة القومية بأجلى مظاهرها من انتشار الثقافات الغربية بين أبناء هذه الشعوب وخاصة ممن استقر منهم في الغرب فبدأوا يقلدونه في كل شيء.
وهناك محاولات غزو عقول الشباب بثقافته المعولمة والإفتئات على ثقافات شعوب المنطقة بل العالم كله، وإذابة القيم الثقافية لصالح ثقافته الوحيدة (Acculturation) بنشرمفاهيم الحرية الجنسية، والتفكك الأسري، والقضاء على التراث، ونشر قيم الاستهلاك، والترويج لمتع الحياة والفساد، والإستلاب وتغريب الشباب عن ثقافاتهم الأصيلة ومجتمعاتهم، عن طريق نشر عادات (هيبية) غريبة، ونشر مفهوم الثقافة الواحدة، أو توحيد العالم تحت هيمنة ثقافة المركز وهويته، أي إنهاء إسطورة التعددية لصالح عالم أحادي الثقافة، وعلى مبدأ اقتداء المغلوب بالغالب، تحت سلطة الإنبهار بثقافة الأقوى. وهوما أثار ردة فعل عنيفة لدى الشعوب المهددة في عقر دارها بثقافتها وهويتها الوطنية، فالتجا شبابها نحو الأصولية والتطرف الديني، والمبالغة في التمسك بالهوية والثوابت التراثية، ونبذ كل ماهو غربي، وبالتالي حدوث ما نشاهده على الساحة الشرق أوسطية خصوصاً من صراعات بين مناصرين للثقافة الغربية ذات القطب الواحد، وفئات الشباب وممن ينتمون إلى ثقافة شعوب الأطراف بكل بشدة وعنف. ولكننا نقول: في الوقت الذي ننبري فيه للدفاع عن هويتنا، ومكتسباتنا، وتراثنا، وثقافتنا، علينا ألا نلجأ - في الوقت ذاته – إلى الإنغلاق والتقوقع وعدم الإقتباس. وكما كما قال زعيم الهند (غاندي) ذات يوم: (مستعد أن أفتح نوافذ بيتي على كل الثقافات ولكني أرفض أن أذوب معها). ونحن نقول سنفتح نوافذنا على الثقافات الجيدة والجادة ونغلقها في وجه الرديئة منها والفاسدة. ولنستنفر- في الوقت ذاته- موروثنا الثقافي لنختارماهو مناسب منه ومفيد، ومن ثم نحاول البناء عليه والتجديد، وإجراء فرز وتحليل عليه لنقله من مستويات التحليل الغيبي الميتافيزيقي الى ما هو إنساني حسيي، ومن القدرية الى الحرية. فالتراث بمجمله هو نتيجة عصر مضى إن تمسكنا جله فلا يمكن أن نتمسكه كله، أي نختار ماهو الأصلح والأنفع، وما هو القابل للتجديد من التراث وخصوصية الثقافات الوطنية، التي لاتعني كما قلنا الإنغلاق بحال من الاحوال ونبذ أسطورة تفوق الغرب والإنبهار به، ونالعمل على نشر قيم العمل، والتنوير، والحرية(6).
وهنا نود القول: بأنه وبدون نشر ثقافة الديموقراطية السياسية والإجتماعية لدى الشعوب والدول النامية وما تتبعهما من مساواة وفك الأسرعن المرأة، وإجراء اصلاحات شاملة في جسم المجتمعات العالمثالثية، سيبقى الإنبهار بالغرب وبالإمببريالية الثقافية المعولمة قائماً حتى النهاية، وسيكون الإفتئات – عندها- جارياً على تراثنا مادمنا غير مستعدين لإجراء عمليات تدوير وتنقيح له وحمله في الأعناق، فلا يمكن- والحال هذه- من تحرير شعوبنا. وستلازمنا عقدة الخوف واليأس، مالم نقدم على توفبرجو مناسب لفتح الأبواب أمام إبداعات الشباب، وتوجيه طرفي الصراع في العالم الثالث العلمانيين والسلفيين نحو مواجهة الغزو الثقافي المعولم وتحديات العصر، بدلا من التصارع والتناحر المريرين، وتنمية الموارد البشرية والإهتمام بالتصنيع وتسخير الطبيعة لصالح الإنسان والوطن، فإذا لم نفعل كل هذا، فلن تحدث إعادة التوازن لحوار الثقافات والحضارات على مستوى الندية والتكافؤ بيننا وبين الغرب الغازي والطامع في ثرواتنا وكنوزنا الظاهرة منها والدفينة.
إن جوهر الغزو الثقافي - من جانب آخر- هو عملية تسطيح الوعي لدى الشريحة الشبابية، واختراق الثقافة المحلية للأقوام والأمم والأفراد، وإلغاء الحوار الإيديولوجي، واحتواء الخصوصية الثقافية للشعوب ، وإخراجها من الأصالة المحلية ومن ثم الذوبان في مشروع ثقافي موحد هي الثقافة الامريكية المعولمة. وأبرزما عبر بوضوح عن تشخيص أهداف العولمة على الصعيد الثقافي، هو ما ورد في البيان الختامي لندوة القاهرة حول (صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟) جاء فيه: (إن الفكر الأمريكي يقود الحضارة اليوم وهو يحاول تفريغ الانسان من الشعور،محاولة منه إرساء نفسه بصفته يمثل الحضارة الوحيدة، وهو يختزل التنوع الثقافي وينظر الى تجاربه باعتبارها تجارب كونية)(7). هكذا بدا الإعلام الامريكي يلعب دورا مفككاً للثقافة القومية لصالح الثقافة الامريكية، وقد تكون عبارة القرية الكونية، التي تخفي وراءها إزالة الحدود والأثير اللامتناهي وهيمنة وسائل الإتصال والإعلام خير دليل على هذا الغزو وتبعاته الإقصائية. 
ويكون تأثير الغزو الثقافي بالأخص على الشياب كارثياً ومروعاً بكل المقاييس المحلية والعالمية، فهناك عدة نتائج وخيمة لهذا الغزو المستمر على الشباب، منها زرع الميوعة والإغتراب في نفسية الشباب، ومحاولات إبعادهم شيئاً فشيئاً عن تراثهم الأصيل، ووإلهائهم وغسل أدمغتهم واقتلاعهم من جذورهم بشكل جذري ومفاجيء ودون مقدمات، فالشباب في المنطقة الشرق أوسطية اليوم يقلدون الغرب في كل شيء، في المأكل صندويشات الهمبرغر والكوكاكولا، ومطاعم الماكدونالد، وفيما يسمى بتقليعات الموضة والموديل في الملبس، والسيرة والسلوك والخلاعة والجنس، وهو نتيجة انبهار الشباب العالمثالثي بطريقة الحياة الغربية وبالنمط الأمريكي منها. فكفرأكثرية الشباب بتراث أممهم العريق وتنكروا له على قارعة الطريق!ً متوسمين فيه الماضوية والتخلف، وانتشرت بين غالبيتهم الميوعة واللاأخلاقية، وتقليد سلوكيات الغربية بشذوذيتها الجنسية، والبعيدة كل البعد عن الأخلاق والثوابت الكردية وشعوب المنطقة عموماً، كما حدث منذ مدة ليست ببعيدة في دولة مثل الإمارات العربية المتحدة، حيث ألقت الشرطة فيها القبض على عدد من الشواذ جنسياً، وهم يقيمون حفلة زواجهم المثلي في فندق خمس نجوم، وقد تنكر قسم منهم في زي أمرأة لتضليل السلطات. وحينما فتح التحقيق معهم أعلنوا جميعاً تأثرهم بالثقافة والعادات الغربية فهؤلاء هم النموذج الذي اختار الأسوأ والأكثر كارثية من هذه الثقافة المعولمة.
 وكما قلنا، يكون لوسائط النقل كالطائرة ووسائل الإتصالات والفضائيات الغربية والعربية، التي تنقل مثل هذه الصور والمشاهد الفاضحة، مثل الفضائية الخليجية اليوم التي تعود لأحد أمراء العائلة المالكة، الدور الأكبر في نشر مثل هذه الثقافات الفاسدة، حيث بدأت هذه الفضائية الخليجية تذيع برنامجاً خاصاً تحت إسم (سوبرأكاديمي) مقلدة فيه البرنامج الأمريكس المشابه لهذا الإسم المعروف بـ(ستار أكاديمي)، وفيه يتم ترغيب الشياب بالحياة الأمريكية المنفلتة والصاخبة، وإلهائهم عن التفاعل مع القضيا الساخنة في المنطقة، ونشرالميوعة والدونجوانية بينهم. ومما سبق نستنتج مايلي: 
1- خلقت العولمة الثقافية ردة فعل قوية لدى الشباب في المنطقة والشباب المسلم بشكل خاص، فكانت هناك اصطفافات شبابية، فمنهم من انضم إلى الحركات الدينية المتشددة كحال منظمة أنصار الإسلام في كردستان، ومنظمات القاعدة لدى الشباب العرب والأفغانيين، ليحاربوا بالدين ظاهرة الغزو الثقافي وأصحاب العولمة الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها خلقت في نفس الوقت نوعاً من المشاكل وعدم الإستقرار لدول المنطقة، مع مثل هذه الحالات من التطرف الديني غير المعتاد، وذلك في دفاع مستميت للحفاظ على ما تبقى من ثقافات وتراث الشعوب الذي بدأ ينهار حسب قناعات هؤلاء الشباب تحت وطأة غزو الثقافة الغربية القادمة. ومنهم من حاول مواجهتها بسلاح القومية كالأحزاب العربية التي اعتبرت العروبة والإسلام شيئاً واحداً، أي أن هذين التيارين الديني والقومي كان أشبه بالسلحفاة التي تلجأ إلى درقتها العصية حال استشعارها الخطر، مع وعود بأن هذه الدرقة سوف تصبح جسراً بين الأمم والثقافات حال زوال الخطر.
2 – هناك من فئة من شباب المنطقة من العلمانيين والليبراليين استجابوا لمؤسسات الغزو الثقافي الغربي دون تمييز بين جيده ورديئه، متنكرين لكل الثوابت التراثية التي رأوا فيها الماضوية والتخلف من رأسها حتى أخمص قدميها، بل ظهر موقع انترنيتي تحت إسم (شبكة الإلحاديين العرب) يريدون تقويم إعوجاج الفكر الديني حسب زعمهم، ومنهم نبيل فياض، وفراس السواح، وسيد القمني، وغيرهم. وتم إنشاء بعض المنظمات المريبة في الغرب ثم دخلت إلى البلاد العربية وانضم إليها البعض من الشباب العرب، وعن طريقها تم اختراق ثوابت الثقافة العربية في بعض الدول، كمنظمة (عبدة الشيطان)، في مصر وهي منظمة يهودية بالأصل، حيث انضم إليها الكثير من الشباب المصرين، أغرتهم المنظمة بشعاراتها وفتياتها الحسان، وبجاذبية شعار المساواة بين البشر وبالحرية الجنسية والفحشاء والعهر، وقد أغرى القيمين على هذه المنظمة المريبة بالكثير من الشباب المصري، بإقامتهم حفلات جنسية ماجنة صاخبة، وقد ألقي القبض عليهم من قبل الشرطة المصرية مراراً وتكراراً، ولكنهم لايزالوا يعملون في السر والعلن. والمنظمة الأخرى المشهورة هي ما تعرف بـ(شهود يهوه) ومركزها في لبنان، وهي منظمة دينية أسست من قبل المؤيدين لليهود، أي انهم يشهدون بالربوبية للإله اليهودي (يهوه) وبمنطق شعب الله المختار ومن يناصرهم، وقد تم جذب الشباب اللبناني إليها أيضاً عن طريق الإختلاط الجنسي، والدعوة الظاهرية إلى الإنسانية والمحبة والمساواة، وعبر برامج فضائية مثل(ستار أكاديمي) والذي يمثل شاهد عيان على الغزو الثقافي الغربي لعقول الشباب العرب والمسلم والمسيحي في آن واحد، ومن ثم إلهاء هذه الشريحة الشبابية بعيداً عن الهموم القومية والدينية والوطنية، وعن تراثهم وأمجادهم وقضاياهم المصيرية العالقة مثل قضايا التحرر وحق تقرير المصير. 
وفي الختام أكرر القول بأن الحل ومواجهة العولمة، لن يكون بإغلاق النوافذ والأبواب، بل الإبقاء عليها مشرعة أمام النافع منها والمفيد وإغلاقها أمام الضار والفاسد، أي باللجوء إلى نوع من عملية التثاقف للحيلولة دون المس بالهوية الوطنية، لأن العولمة ومعها مفرزاتها كالغزو الثقافي وما شاكل، هي ظاهرة تطور عفوية، وستنتقل بصورة حتمية إلى معظم الشعوب والبلدان، بجوانبها السلبية والإيجابية، والتعامل معها يكون بتمجيد تراث الشعوب الصالح والمفيد والبناء عليه – كما قلنا- وتوعية الشباب بأهمية وقيمة هذا التراث للحفاظ على قيمه وثوابته التاريخية حتى لاتقتلعنا رياح الغزو الثقافي من جذورنا، وتكون التوعية عن طريق استخدام الفضائيات وعقد الندوات والمحاضرات ووسائل أخرى تدخل ضمن هذا الشأن، لاستنهاض همم الشباب والوقوف في وجه العولمة المتوحشة والإمبريالية الثقافية الإقصائية الجديدة والمتجددة.
ولكني أقول أن قضية العولمة الغربية بالنسبة للأكراد ليست سوداوية بهذا القدر، فالأكراد شعب مستعبد تتحكم بههم شعوب المنطقة وتكتم أنفاسهم، نظراً لشدة عنصرية وشوفينية حكومات هذه الشعوب، فقد فرضت الحكومات العربية، والتركية، والفارسية، نفسها كحكومات المركز بالنسبة للشعب الكردي الذي تحول إلى شعوب الأطراف لها، ولهذا أعتقد أن الأكراد يتعرضون الآن لعولمتين، عولمة من الغرب كغيره من شعوب المنطقة، وعولمة أخرى - أشد مضاضة من وقع الحسام المهند - من حكومات الشعوب المجاورة والتي حا ولت - ولاتزال تحاول-  اللجوء إلى التتريك، والتفريس، والتعريب بحق الكرد، أي باعتقادي هناك عولمات عربية، وتركية، وفارسية، قضت على الكثير من التراث والثقافة الكردية. فنرى الكرد اليوم في كل من العراق وسورية قد استبدلوا لباسهم بالزي العربي الكلابية والكوفية والعقال محل (الكم والكولوز الكرديين) ونسوا الكثير تاريخهم، وحروفهم القديمة، وشكل كتابتهم، وتثقفوا بالثقافات العربية والتركية والفارسية، وتم سرقة الكثير من التراث الكردي من قبل هذه الشعوب ونسبوها إلى انفسهم. وكانت العولمة والغزو الثقافي التركي هما الأشد من بين هذا الغزو المحلي المعولم. ففي تركية تم تتريك الكثير من الكرد الذين نسوا لغتهم الأم وبدأوا يتكلمون التركية حتى أن قسماً كبيراً منهم اليوم يخجلون من التكلم بالكردية، لما غرسه الأتراك في روعهم ان الكرد متخلفون ومن يتكلم لغتهم فهو متخلف، ولقد تأثر الكرد بهذه الأقوال مع الأسف وخجل قسم كبير منهم من التكلم بلغتهم الأم. ولولا الفكر القومي الذي انتشر بينهم مؤخراً من قبل حزب العمال الكردستاني لكنت ترى اليوم كل الاكراد تقريباً يتخذون التركية لغة أولى لهم. ولهذا فالعولمة الأولى قادمة من شعوب متقدمة وحضارية بينما العولمة الاخرى متخلفة لايزيدنا إلا تخلفاً. ولهذا أعتقد أن مافقده الأكراد مع هذه الشعوب لم يبق ما يخسره مع العولمة الغربية الوافدة، وأنها قد تكون مفيدة في جانب كبير منه أي منافعها أكثرمن ضررها، وربما يأتي مع العولمة الغربية بعض العوامل السياسية الإيجابية، أي أن يتخلى شوفينيو هذه الأمم الثلاث وخاصة الأتراك منهم عن شوفينيتهم تجاه الكرد ويقبلونهم شعباً شقيقاً له ما لكل الشعوب من حقوق وواجبات. وفي خضم هذه التحولات تكون الشعوب العالمثالثية مطالبة بانتاج منظماتها السياسية والفكرية والثقافية، تلك التي تعبرعن خصوصيتها والعمل على رفع المستوى الحضاري لها، حتى يمكنها الإستفادة من منجزاتها العلمية النافعة، والحيلولة دون تدمير خصوصيتها الذاتية وعدم تدمير تراثها الإنساني، ثم استيعاب ماهو منجز حضاري ومفيد في تقدم هذه الشعوب ومساعدتها في تحقيق التجديد والإبداع.    
..................................................
(1) – محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية، عشر إطروحات، مجلة فكرونقد، العدد  6- فبرابر1998م ص 5-18، ص8.
(2) – انهيار مزاعم العولمة – د. عزت السيد احمد- ص- 14.
(3) – نفس المصدر السابق
(4) – نفس المصدر السابق – ص- 85 ومابعد.
(5) - المعرفة - 485 – ص- 15.
(6) - المعرفة 485 ص-23.
(7) - المعرفة- 501 ص 171.
.......................................

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.6
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات