القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: أدونيس والعودة إلى الذات.. دراسة نقدية تحليلية: لعينة عشوائية لبعض قصائده

 
الثلاثاء 15 ايلول 2009


  خالص مسور:

تضاربت الآراء بين النقاد حول مكانة أدونيس الشعرية، فمنهم من قيم إيجابياً دخوله الحداثة من أوسع أبوابها لذا فهو شاعر حداثي بامتياز، يدعو إلى نبذ كل ما هو ماضوي ومنتهي صلاحيته من الإرث والتراث وتطوير ما هو نافع منه ومفيد. ولهذا نجده بعد ديوانه /أوراق الخريف/ عام 1958م يميل في شعره بشكل لافت نحو الفلسفة والتأمل، حيث تحفل قصائده بالكثير من المقولات الفلسفية واعتباره نظرية المعرفة أهم كاريزمات فضاءات التوتر الشعري لديه متأثراً بشكل خاص بمقولات /كانط/ وغيره من فلاسفة الأنوار في أوربا، وكان لوجوده ضمن مسار الحركة القومية الإجتماعية التي أسسها المفكر اللبناني أنطوان سعادة دوراً هاماً في توجهاته الفلسية هذه.


وبهذا الشكل تجرد الرجل من النزعات القومية الضيقة فأحب الإنسان وآمن بحقوقه في هذه الحياة كاملة غير منقوصة، وغنى للإنسان الحر مطالباً إياه بالسير في فضاءات الحداثة والتحديث وخاصة في الأدب والشعر. والحداثة الشعرية لدى أدونيس هي رؤيا عصرية تكتنفها الحيرة والتساؤل ثم التمرد والتوتر والصراع بين الجمود والثبات، بين التحول والتغيير، وهي بالإضافة إلى هذا وذاك انعطافة نحو الذات بالدرجة الأولى، ولكنها الذات المتجردة من ذاكرتها الماضوية. ولهذا كثيراً ما ينتقي أدونيس رموزه من الجانب الإيجابي للتراث وينبذ رديئه هذا الرديء الذي يشبهه بالرماد بينما يمثل جيده باللهب وهو الجانب الذي يجب الإستعانة به لدى بني قومه وتطويره، ومن ثم العمل على تفجير اللغة من الداخل والوصول بها إلى لحظة الإبداع حسب القدرة التجريبية لكل شاعر.. لهذا فطالما هناك انغمار في بحار تمورعلى الدوام بإرهاصات من الحيرة والتوتر، لذا فمن المعقول أن تتوفر قصائده على كثبر من مقولات فلسفية ورموز صوفية موحية، ولكن يوظف أدونيس رموزه بطريقة مبتكرة وبشكل مغاير لما يبتغيه المتصوفة منها.
وقد أيده الكثرون من النقاد في تجديده وحداثته الشعرية، بينما هاجمه آخرون بضراوة وعنف. بينما لقي استحسان البعض الآخر منهم، ومن الذين هاجموه بقسوة الناقد السعودي عبد الله الغذامي والذي نعته بالفحل الضخم الجسم وقال: (إن أدونيس منذ أن اتخذ لذاته موقع الأب الحداثي ذي البعد الإسطوري، وهو في حدود تصنيم الذات وتتويجها بصورة البعل الذي ترد صورته في نقوش الأوابد التاريخية على هيئة الفحل الكامل ذي الجسد الضخم، والشاعر الذي يتعالى على الشعر، هو الأعمق والأكمل، والذي شعره هو اللهب، أو ما هو أبعد من اللهب، فإنه يشرع في إحلال نفسه محل كل ما عداه وفوق الجميع، فهو الخلاصة الكونية، وهو الحق المطلق).
في اعتقادي أن الغذامي يتجنى على الرجل بما فيه الكفاية، فبدون شك هو من فطاحل القصيدة العربية الحداثية وليس فحل بالمعنى الذي استخدمه الغذامي، ولهذا يخطيء الغذامي في توصيفه لشاعر مبدع ومجدد له وزنه وتأثيره في التطوير والتحديث على مستوى المنطقة والعالم ككل مثل أدونيس، فقامته الشعرية سامقة في الشعر العربي بينما أوصلته شهرته إلى العالمية أيضاً وقد نال مؤخراً عدة جوائز عالمية في الشعر والأدب. ومن حق أدونيس إن كان ذلك صحيحاً أن يرى نفسه فوق المنغلقين والمتقوقعين والذين لايجرأون حتى على إزالة غبار الجاهلية عن جلودهم المهترئة، والتخلي عما يحملونه من أفكار ماضوية متعصبة ضد كل ما هو جديد ومساير للعصر، وكما هو معروف فإن الأدب والشعر يتغيران بتغير مفاهيم العصر وتطور المجتمعات. وحتماً يريد الغذامي أن يضع في يدي الشاعر المجدد أدونيس ألف قيد وقيد، ومع هذا أعتقد أنه لا يريد أن تفوح من شعره رائحة الصحراء، والناقة، والجمل الأجرب، ووأد البنات إلى غير ما هنالك من مفاهيم عفى عليها الزمن  كما يقال.
وفي يقيني أن الناقد السعودي الغذامي وهو الناقد الذي يدعو إلى الحداثة أيضاً يضع نفسه هنا في موضع التناقض وذلك حينما ناقش هنا شخصية الشاعر وليس نصه الشعري كما تذهب النقودات الحداثية مع أنه يرى نفسه بدوره حداثي النزعة في نقده ويتبنى مسارات المنهجيات البنيوية، والتفكيكية، وموت المؤلف، والنص المفتوح، وتعدد الدلالات...الخ. والناقد الحداثي لا يبدأ بإنطباعاته عن حياة الشاعر وشخصيته، بل عن شعره كيف يقول وليس ما يقول حسب المقولات الحداثية في النقد، وكان الأولى بالسيد الغذامي أن يحلل شعر أدونيس ويفككه ويعرف كيف يقول الرجل وليس محاولته التركيز على  فحولته الأدبية. وعذراً لهذه الإطالة الجدلية التي كان لابد منها كمقدمة لما سنبدأ به في دراستنا النقدية عن بعض القصائد المنتفاة بعشوائية لأدونيس وهي تكفي نوعاً ما لفهم بعض مواقفه وفنياته وفهم آلياته الشعرية المعتمدة.    
ففي قصيدته /أول الشعر/ يقول أدونيس:
        أجمل ما تكون أن تخلخل المدى
والآخرون- بعضهم يظنك النداء
       بعضهم يظنك الصدى .
أجمل ما تكون أن تكون حجة
           للنور والظلام
يكون فيك آخر الكلام وأول الكلام
والآخرون- بعضهم يرى إليك زبداً
       وبعضهم يرى إليك خالقاً .
أجمل ما تكون أن تكون خالقاً –
           مفترقاً
       للصمت والكلام 
بهذه السطور المليئة فلسفة وحكمة وبهذا التأثر والقلق الوجودي يرسم الشاعر موقع الذات في هذا العالم، ويبدو كأن الكلام موجه إلى ذاته الشاعرية فيرى أن على الإنسان أن يهز كيان الموروث البالي والمتحجر، ويفرض نفسه كقوة للتغيير في طريقه إلى الحداثة والثورة على كل ما هو قار وقديم. كما يتوجب على الإنسان الفرد أن يسعى ليكون النداء لا الصدى مبدعاً وليس مبتدعاً قائداً وليس مقوداً. وهناك دوماً من يعتبرك تابعاً وآخرون يعتبرونك مبدعاً، ولكن المهم هو التحليق في سماء الإبداع والعوم في فضاءات البصر والبصيرة، وأن ترتسم فوق جبينك هالات من نور وشعاع ميثرائي، وأن تكون كفؤاً في الشدة والضيق والظلمة والنور.
وبهذه الشاعرية المتفلسفة يعرض الشاعر رأيه بصراحة ووضوح ويدعو إلى فضح المسكوت عنه والثورة على البالي والقديم، والإقبال على ما هو الأجمل في هذه الحياة، وأن يصبح المرء رائداً من رواد الحداثة والتحديث كما هو حال الشاعر ومآله. ونلاحظ من الناحية الفنية الإبتداء بالضمير المخاطب ثم التحول المفاجيء نحو الضمير الغائب ثم المخاطب مرة أخرى وفي نفس السطر الشعري -أجمل ماتكون – والآخرون - يظنك- بعضهم- يظنك- وهو ما ينم عن مقدرة شاعرية كبيرة وبوح خلجات قلب شاعر ينطق بالفلسفة والحكمة، وقد استعمل الشخطة بين بعض العبارات للتأكيد على الفكرة والإلتفات والتفريق بين الفكرة والأخرى كما أن له فيها مآرب أخرى كفسحة يجول فيها المتلقي ويجول.
هكذا يتوفر الشاعر على مناقشة الذات بطريقة ديالكتيكية ممزوجة بدراماتيكية مثيرة، فيورد آراء الناس فيها – أي في الذات- ثم يأتي برأيه ليكون الحكم الفصل والحجة التي تحسم الموقف وهو ما يضفي نوعاً من القداسة على الذات والشخصية المحورية معاً، مثلما نرى أدونيس وهو يعود إلى رؤاه الذاتية والإنطلاق منها نحو العالم الخارجي. ومن الناحية الجمالية فقد أفلح الشاعر في تلوين سطوره الشعرية بتنغيمية منسجمة وإيقاع شاعري مثير وفي غاية الرهافة واللطف. ويتمثل الإيقاع الشاعري هنا في تقنية التكرار /ما أجمل – ما أجمل/- الآخرون – الآخرون/- /بعضهم – بعضهم/- /ما تكون- أن تكون/. وفي حرف الروي المتنوع – المدى – الصدى – الظلام- الكلام- زبداً- خالقاً. مما أدى إلى إفراغ تراكمات لطاقة نفسية مكبوتة وشحن الجمل الشعرية بتنغيمية موسيقية وإيقاعية محببة إلى النفس تحوز قبول المتلقي واستحسانه.
وكما قلنا يتسربل المسارات الشعرية الأدونيسية بالإكثار من الكلمات والجمل التي تدل على التحليق في فضاءات مفاهيم الحكمة والفلسفية والتأمل من قبيل- حجة- الكلام – النور والظلام- زبداً – خالقاً- الصمت- ورغم أن بعض النقاد لايحبذون الإكثار من الفلسفة في الشعر لأن الشعر ذوق وخيال، ومجاز، وتخييل قبل كل شيء، في الوقت الذي تكون فيه الفلسفة منطق وصرامة. ولكني أرى أنه وفي حال إذا ما استطاع شاعر في قامة أدونيس أن يلون أشعاره بألوان من طيف الفلسفة والتأمل مع مقدرة شاعرية فذة، فإنه يستطيع عندها الإستعانة بالفلسفة دون أن تفقد السطور شاعريتها وألقها المتميز. وفي الحالة المعاكسة فالنتيجة ستكون سلبية وستتحول السطور إلى ما يشبه سفسطائية مملة تلج عالم الغموض والمصطلحات الفلسفية والتي هي مجال الفلسفة لا الشعر وهو ما يؤدي إلى تنفير القاريء منه وإفلاس الشاعر وهبوطه إلى سوية شعرية لايحسده عليها أحد.   
وفي قصيدته الموسومة بـ/أغنيات/ يقول أدونيس:
                              
سكنت في نخيل؟ من الصمت بين رؤاها وأجفانها...
                        بيتها شارد؟
           في قطيع الرياح، وأيامها
                       سعفها؟ يابس؟،
                          ورمال؟.
         من يقول لزينب: عيناي ماء؟
               ووجهي بيت؟، لأحزانها؟
عنوان القصيدة /أغنيات/ جاء من كلمة واحدة وبصيغة الجمع مما يوحي بتفجير الإيحاءات الدلالية في فضاءات اللقطة التعبيرية والولوج إلى عالم من الوجد الصوفي ونبض الروح، بالإضافة إلى توفر حالة من الإدهاش والشاعرية والتخييل، وهو ما يدل على قدرة الشاعر على خرق فضاءات لعبة الرموز السحرية وتعدد الإشارية في النص الشعري. وهذه الكلمة/أغنيات/ جاءت نكرة وهو ما يمنحها تعدداً في الإشارية والدلالات وخاصية معنوية تبعث في المرء عادة جواً من التفاؤل والمرح والإنتشاء، وقد يصاحبها جو احتفالي صاخب، وقد تكون هناك أغنيات شجية يصحبها الحزن والأسى كما هو الحال مع السطور الشعرية هنا، ولهذا نرى انكسار أفق توقع القاريء هنا والإكتشاف بأن الإنثيالات الدلالية للعنوان (أغنيات) تنم عن عاطفية شجية تبعث على الأسى والحزن والمرارة في النفس.
وبهذا فعنوان القصيدة مراوغ ويتوفر على دلالات متعددة تتفاعل باحتفالية صاخبة في دواخل محراب الذات الشاعرة. كما أن إنتقال الشاعر بشكل متعاقب من ضمير المتلكم، إلى ضمير الغائب، ومن الغائب إلى المتكلم، أدى إلى خلق جو من التعاطف والإلتفات إلى بطلة القصة الشعرية والتي ربما ترمز إلى وطنه بل الإنسانية كلها المرموز لها بزينب مستخدماً في ذلك تقنية الإلتفات أو التقديم والتأخير- بيتها شارد- سعفها يابس- وهو ما يظهر حالة من المشاعر الجياشة لدى الذات الشاعرة تجاه زينب التي تفتقر إلى أهم مقومتين من مقومات الحياة الإنسانية ألا وهما المأوى والماء، والماء – كما نعلم - هو عماد الحياة وأساسها.
وقد انطوت البنية الإستيراتيجية للنص على الحيرة والقلق وعبارات التساؤلات اللطيفة الصادرة عن عواطف إنسانية مؤثرة، فالتساؤلات الضمنية تشكل تتابعات مركزية وحراكاً انفعالياً وإمداءات دلالية في جسد النص الشعري، وهو ما أدى – مرة أخرى - إلى خلق حالة من التوهج الإبداعي امتزج فيه الذاتي بالكوني والإنساني بشكل لافت، وأفضت إلى نوع من جمالية التلقي أي هناك ما يمكن أن نسميه بتوتر مؤثر بين الأطراف الثلاثة المبدع والمتلقي والنص. كما أقدم الشاعر في السطر الأول للقصيدة على استخدام تقنية تراسل الحواس من السمعية إلى البصرية، مترافقاً مع لوحة شاعرية تجسد الحالة المتقلبة لسيكولوجية الذات ما بين السكون والهدوء النفسي، وإلى حالة من الإنتشاء بين أجفان الحبيبة التي رمز لها بغابات نخيل، وهي هنا تجل لإمداءات التناص مع قصيدة بدر شاكر السياب/أنشودة المطر/ ولو ربما بشكله العفوي. واللوحة الشاعرية المرسلة التي رسمها الشاعر بالكلمات تعبر بكثير من الإدهاش عن جلال السكون وروعته بين غابة من أجفان غانية حسناء، تم التعبير عنها بالرمز المتجسد في السطر الشعري الاول- (سكنت في نخيل؟ من الصمت بين رؤاها وأجفانها...)، والتي جاءت في غاية الروعة والجمال، طافحة بالإنثيالات الدلالية المعبرة عن الحلم والرءيا و الرؤية معاً.
وتتنوع موسيقلى القصيدة ما بين الإيقاع الخارجي متمثلاً في حرف الروي في أواخر السطور الشعرية مثل-  رؤاها –أجفانها- أيامها- لأحزانها- ثم الإيقاع الداخلي ويتمثل في التكثيف الدلالي لعبارات تتسم بتناسقاتها التنغيمية، ثم التقطيع بالفواصل وإشارة الإستفهام التي تعبرعن مسافة التوتر بين دواخل الذات الشاعرة والحالة المأساوية لزينب، وهو ما شكل دراما تراجيدية بدت الذات الشاعرة فيها تستنطق الآخر المسؤول عن تلك الحالة التي رسمتها بسوية رمزية وفنية عالية مع إيقاع متناغم وانسيابية الجمل الطافحة بالإنسانية وحالة الألق والتوهج المتدفق للسطور الشعرية المنتهية بحرف الألف التي تسهل في تنفيس الطاقة الشعورية المكبوتة في دواخل أنفس تعاني الحزن والأسى.
كما يبدو النص الشعري أكثر شبهاُ هنا بقصيدة الومضة من حيث اكتناز المضمون والتكثيف الإشاري، أي أن القصيدة تغلب عليها طابع الومضة والرمز. وتتوفر على حالة من الثراء الدلالي، وتمنح المتلقي إمكانية تفسيرها حسب إمكاناته المعرفية وإتاحة الفرصة له في إعادة إنتاج القصيدة لااستهلاكها وهو ما ينطوي ضمن كاريزمات القصيدة الحداثية. أي أن قصيدتنا هذه أتت كثيفة ومعبرة حافلة ببنيتها العميقة الرامزة، وفي حالة من التواشج بين الطبيعة والأنسنة والتشخيص كما في العبارات - سكنت في نخيل من الصمت- قطيع الرياح- أيامها سعفها يابس- ووجهي بيت لأحزانها. ولهذا نذهب إلى القول بأن النص الشعري بدون أن يطفح بوشي منمنم من خيوط التأويل والرمز يصبح تافهاً مبتذلاً لاينطوي على ماهو جديد أوشيء من اللذة والابتكار، بل يصبح في هذه الحال مملاً مكروراً لا يسترسل النبض في عروقه ولا حياة تدب في أوصاله. ولهذا رأينا هنا المستوى الدلالي المبطن للسطور الشعرية، وهذا هو دائماً عادة أدونيس الذي لايسلس القياد لمتلقيه بسهولة ويسر. 
وبقليل من التأمل والتروي سنشاهد أن القصيدة انطوت على ما هوالمسكوت عنه وهو ما يدل عليه سياق العبارات السطرية الرامزة بالإضافة إلى النقط /.../ التي تركها للقاريء يملأها حسب فهمه للسطور، وكأنه يقصد بالمسكوت عنه حالة الأمة العربية الراهنة وما آلت إليه من الفساد والتصحر وجفاف الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية...الخ. وقد أفسحت القصيدة المجال للمتلقي للدخول في حالة من التماهي بين التخييل والواقع، وبحركة بهلوانية سريعة مع تقنية (البرولوج) استطاع الشاعر قلب الموقف رأساً على عقب، والإنتقال من اللوحة الساحرة الجمال الموشية بأجندتها التفاؤلية، إلى إشهار حالة من الإكتئاب النفسي المثير معبراً عنه بمشهد مكاني بائس/بيتها شارد/ تتناهبها /قطيع الرياح/ وكلمات مثل –الصمت- شارد- يابس- الرمال- الأحزان- وهو مايشيرعلى قتامة الطبيعة من حول زينب وبالتالي قتامة الحالة النفسية والإجتماعية لها، محاولاً تزيين لوحته الشاعرية برتوش من مشاهد (تراجوكوميدية) مؤثرة واستخدام الأنسنة والتشخيص مرة أخرى ودمج المتناقض لإعطاء صور إيقونية مبتكرة حداثية تجمع ما بين اللفظة الرشيقة الإبداعية المعبرة والحالة النفسية المزرية لحبيبة الشاعر أو لوطنه وأمته.
كما نلمس مرة اخرى تكثيفاً دلالياً لرموز الطبيعة الهائجة التي تهدد الإنسان في عقر داره التي بدت أوهن من بيت العنكبوت..! حيث أراد الشاعر التعبير عن مزاج متوفز الأعصاب بالإكثارمن استخدام إشارات الإستفهام وهو ما يشير إلى حالة من الحيرة والقلق الوجودي والتوتر ينتاب الذات الشاعرة تجاه ما آلت إليه حال زينب وأحوالها.
ولهذا رأينا الشاعر ينتقل بحركة سريعة من ضمير المتكلم إلى الغائب/ بين رؤاها وأجفانها/ إلى المخاطب/ من يقول لزينب/ وبتلفظه باسم زينب، حيث يكشف الشاعر في النهاية اسم بطلته ومحبوبته المنكوبة على اعتاب بيتها المهدد بقطعان الرياح العاتية والرمال السافية . ويتسائل عن حالها ومآلها بحيرة ومرارة... والتي صورها في ضنك من العيش ومأزق شديد يحتاج إلى من يسعفها وينتشلها مما هي فيه من هوتها السحيقة التي وجدت نفسها فيها، ويطلب لها من يطفيء نارأحزانها يشاركها وهمومها وآلامها، يأويها ويقاسمها هموم الحياة قبل الممات.
وفي قصيدته: (أول التهجية) يقول:    
       نقدر، الآن، أن نتساءل كيف التقينا
نقدر، الآن، أن نتهجى طريق الرجوع
      ونقول: الشواطيء مهجورة،
                والقلوع
           خبر عن حطام
نقدر، الآن، أن ننحني، ونقول: انتهينا.
قبل الدخول في معالجة العنوان نقول بأن الشاعر استخدم تقنية اللانص في السردية الشعرية بالتضافر مع مقدرته التخييلية ليفجر اللغة بشاعرية مرهفة وعاطفة شجية تتهيج بإيحاءات تيار الوعي لبنية النص الشعري. فقوله / نقدر الآن/ يدل على أن قبل الآن كان هو ما لم ليقدر عليه وهو اللانص في تقانة السرد القصصي أو في القصيدة القصصية.          
بالإضافة إلى اللقطة الفوتوغرافية المعبرة والتماهي بين الراهن والمستقبل يجسده الفعل المضارع/نقدر/ وظرف الزمان/الآن/ والعودة مرة أخرى إلى النفس والحيرة والقلق والتردد. وهو مايدل على رؤية ورواية شعرية تراجيدية بدأت باللقاء وانتهت بالإنجاز. بينما تكمن الفاجعة الفارطة في دلالات كلمات من قبيل- مهجورة- حطام- ننحني – انتهينا – بالإضافة إلى أن الافعال المضارعة - نتساءل- نتهجى- نقدر- الآن- أضفت جواً من الحراك الدلالي على السطور الشعرية، محققاً في النص ما يشبه  حالة من الإدهاش والإنقلاب المفاجيء المثير مع تراجيديات النهاية مع الفعل الماضي القطعي - /انتهينا/. ولكنها النهاية المأسواية الأليمة للوحته الشاعرية المتناسقة والطافحة بالجمال التراجيدي المثير. وفي كل هذا اعتمد الشاعر على المدرسة الأدونيسية باضفاء سيمفونية موسيقية منسجمة التوزيع وإيقاع خارجي متماه مع إيقاع داخلي متناغم يتسم بالرهافة والحساسية العالية، وباستخدام التكرار والأفعال المضارعة والتوازي اللفظي- نقدر- الآن- نتساءل- نتهجى- وتنوع القافية وتباعدها تحقق ما يعرف بتكثيف النص والتدفق الدلالي للسطور الشعرية، وإضفاء نوع من الحركية على المكنون النصي والتخلص من رتابة القافية المتكررة كما في /التقينا- انتهينا- الرجوع- القلوع/ مستبطناً توزيع السطور على سطح الورقة ما بين بياض وسواد بشكل هندسي جميل، معطياً مساحة واسعة لبياض الصفحة الورقية ليحقق نوعاً من الإيقاع التكنيكي الجميل تتفاعل فيه التساؤل والأزمنة لتثير في النفس إحساساً مرهفاً بالحياة.
هكذا رأينا الشاعر السوري الكبير احمد سعيد عقل(أدونيس) شاعر حداثي بامتياز يلجأ إلى التأمل والفلسفة في شاعريته المثيرة للجدل، والتركيز على الإيحاءات الدلالية لسطوره الشعرية الحداثية الصعبة الفهم في غالب الاحيان، والإكثار من الغموض المعقد مع شيء من الغموض الشفاف في أحايين أخرى. داعياً إلى اعتماد التجريبية والرؤيا ولسان حاله يلهج بالقول: يجب أن نرى في الكون ما تحجبه عنا الألفة والعادة، أن نكشف وجه العالم المخبوء، أن نكشف علائق خفية. وهو الذي يدعو على الدوام إلى التغرب والحداثة والتحديث وخاصة في الشعر والأدب، ونبذ كل إرث معيق للفعالية الحضارية، والدخول إلى الحضارة الغربية والتي هي حصيلة حضارات سابقة من أوسع أبوابها، ولسان حاله يقول: كفانا تناحراً وتأخراً وتشدقاً بإرث ماض تولى، وحاضر لم يلهمنا ما نتمنى.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات