القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: متاهة الصَّمت.. قصّة قصيرة

 
الأثنين 30 اذار 2009


صبري رسول

ترسمُ المشهدَ بريشتها الصَّغيرة، وتظلّله بألوان الصَّمت. فتَظهر الحيويةُ بدون ضجيج كصورة فتوغرافية.
لا تُظهِرُ ما يوحي بأنَّها ترسمُ بطلبٍ من أحدٍ، تُتقنُ عملها بمهارةٍ عالية، وتتّخذ من الصَّمت مكاناً للمرسم ، وطقساً شخصياً لعملها الفني.
دخلنا القرية صباحاً، كنا ثلاثة، نبحثُ عن أحوالِها التي باتت محيّرة للنَّاس، بين مصدّق ومشككٍ بها؛ فمنهم من يراها صورة أسطورية، رغم ما بها من مظاهر الزَّمن الحالي المنفلت من قيود الحسابات، ومنهم من يراها حالة منقادة بفعل المسيّرين لأحوالها. دخلناها عند انصراف الناس لشؤونهم اليوميّة، فوجدناها غارقة في الصَّمت الضبابي الكثيف، لم نسمع صياح الديوك، ولا خوار الأبقار، ولا ثغاء الأغنام، لم نسمع صياح الأطفال؛ ومظاهرُ الحركة الطبيعية القوية باديةٌ عليها.


في البيادر الفسيحة كانت الحصادات الخضراء تعمل نشيطة، غبار التّبن يرسم حزماً بيضاء خلفها، والفلاحون يقدمون لها أكواماً من الحصيد، لكن لم نسمع لها هديرا ولا صوتَ أحدٍ ينادي الآخر، كلٌّ يؤدّي عمله بإتقانٍ؛ في الطريق الترابي بين القرية والنبع كانت الفتيات يتمايلنَ بقاماتهن الرشيقة في طريقهن إلى نبع القرية، ذاهبات وعائدات حاملاتٍ جرارهن على أكتافهن، لم نسمع ما يجري بينهن من أحاديث ودردشات، ولا أغنياتٍ شعبية تنشدُها الرّيفيات في أعمالِهن. في مزارع الكروم كان الفلاحون يعملون بنشاط ، منهم من يبني سياج المزرعة بحجار بازلتية سوداء، ومنهم من يقطف عناقيدَ عنبٍ ويجمعها في سلالٍ من قصب، ولم نلحظ بأنهم يتحدثون مع بعضهم، ولم نسمع لهم كلاماً وكأن على رؤوسهم الطير. في الطّرف القصيّ من القرية وعلى الصخرة المنبطحة قرب النَّهر كانت النساء يغسلنَ الصُّوف بضربات من العصي، وينشرنَه على أكياس الخيش وقصب البردي المفترش على حافة النّهر، والصغار حولهن يقفزون ويسبحون في البرك الصغيرة، و لم نسمع شيئاً من هذه الحركة.
وحده الصّمت سيد الموقف، وكأنَّ النَّاس قد ابتلعَوا ألسنتهم، أو كأنَّ الكلام بات محرَّماً عليهم؛ سحناتهم معجنة بتقاسيم بصمات الشَّمس.
مظاهر العمل والحياة اليومية تؤكد استمرارية طبيعية لنشاط النَّاس. وحدَها كانت تلك الفتاة الصّغيرة جالسة على كرسيٍّ صغير أمام أحد البيوت الطينية الواطئة، ترسمُ المشاهد القروية بألوانٍ زاهيَّةٍ، تلوّنُ سراويل الفلاحين بالرمادي الكالح، وتنشر غسيل الصُّوف بلون القطن اللامع، وتصفُّ عناقيد العنب بالأحمر الدَّكن، وتترك البيوت متناثرة بفوضوية على كلّ الجهات، لكنها كانت تعمل وفق قانون فتنة الصَّمت الذي يغلّفُها بثقله الضبابي. ترسمُ المشهدَ، وتظلّله بألوان الصَّمت. لاحظنا قبل مغادرتنا القرية بأنَّنا ننتقل إلى عالم السّكوت، فلم نعُد نتحدَّث مع بعضنا، نكتفي بتسجيل عوالم النَّاس بصمت.
asia966@hotmail.com
الرّياض في 1512009م

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.33
تصويتات: 3


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات