القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

حوارات: في حوار مطوّل مع الشاعر والكاتب هوشنك أوسي.. خمس سنوات من عمره هي التي شكلت شخصيته

 
الجمعة 12 ايلول 2008


 
أجرى الحوار : حسين جمو

مسافات طويلة , آلاف الكيلومترات, تفصلني عن الكاتب والشاعر الكردي هوشنك أوسي , لذا لم يكن هذا الحوار سهلاً سواءاً من الناحية التقنية أو من ناحية مضمون الحوار ذاته , ولأني أجريت الكثير من الحوارات , إلا أن الحوار مع أشخاص تعرفهم يكون له طعم آخر , وموسيقى أخرى , والأهم من كل ذلك أن الجانب النقدي يكون أكثر حدة. طرقت جوانب كثيرة من الحياة في هذا الحوار , من الطفولة إلى الشباب ومن السياسة إلى المرأة والأدب والشعر .. 



و رغم أن لدي رغبة في ذلك , لكني لن أجول في المقدمة كما أرغب , وسأدع للقارئ حرية التقييم للكلمات التي استطعت تحريرها من قيود هوشنك أوسي الرحيمة. وأزعم أني لم أغفل الجوانب الرئيسية التي تمس حياة مجتمعنا السياسية والثقافية والاجتماعية إضافة إلى زعمي أني ربما نجحت نوعاً ما في سبر الأغوار الشخصية لهذا الشاعر الذي دهشت بجوانب من شخصيته وقلمه قبل سنتين عندما التقيته اول مرة. وإليكم الحوار:
 

   أغلب من يجرون الحوارات، يتجاهلون أهم مرحلة في تاريخ الإنسان. ألا وهي مرحلة الطفولة, العش الذي خرجت منه. بداية, ما هو أقدم مشهد طفولي عالق في ذهنك؟.

بسؤالك هذا، جعلت سيلان الصور تفيض في مخيالي. وحِرتُ في أمرِ ترتيبها زمنيَّاً، وانتقاء الأبرز منها. لكن، لا أعرف لماذا تصدَّرت بضع صور ذاكرتي؛ أوَّلها، الخوف من الكلاب. نعم، غالباً ما كان النوم يجافيني، حين سماع نباح الكلاب الشاردة ليلاً، وهي تجوب شوارع الدرباسيَّة، بخاصَّة في ليالي الشتاء، وهي تركض على الرصيف المرادف لبيتنا، وتنبح عالياً. كان قلبي الصغير، يكاد يخرج من فمي، من شدَّة الرعب والخوف .وحتَّى الآن، أخاف كثيراً من الكلاب. لكن، أحبُّ سماع صوتها من بعيد، بخاصَّة في ليالي الصيف. وهذا ما أفتقده حاليَّاً في دمشق. وباعتقادي، ما الصيفُ بصيفٍ، إنْ خلت لياليه المقمرة، من نباحِ كلابٍ، آتٍ من بعيد.
صورة أخرى، راسخة في خيالي، وهي: حين كنت مصاباً بالحمَّى. ولشدَّة ارتفاع حرارتي، اجتاحني الهذيان. فخافت أمِّي كثيراً عليَّ، بعد فشلت كمَّادات الماء البارد خفض حرارتي. حينئذ، لم يكن في البيت، أجرة معاينة الطبيب. فبدأت أمِّي تطرق أبواب ونوافذ الجيران، بغية الاستدانة منهم ثمن المعاينة. وأعتقد أنها كانت 100 ليرة. هذا الحدث، كان منتصف الثمانينات، كان عمري وقتها ربما 9 سنوات. ورغم الحمَّى، إلاّ أن منظر عودة أمِّي خائبة للبيت، وهي تبكي، إذ اعتذر منها الجيران، ولم يعطوها المبلغ، لا يبرح ذاكرتي. ازدادت حالتي سوءاً. فلم يكن بأمِّي إلا وتحملي على ظهرها، وتركض مسرعة صوب عيادة الدكتور عاصم أمين، الذي كان يبعد عن بيتنا زهاء كيلو متر. إذ كانت أمِّي تخجل من أخذي لعيادة الدكتور عاصم، دون أن يكون بحوزتها، ثمن المعاينة، لأن هذا الطبيب الفاضل، كان يعالجنا مجَّاناً. فاعتذرت أمِّي من الطبيب، بصوت متهدِّج مبحوح، مثقل بالبكاء والخجل، وبعينين تكادان تفيضان دمعاً، عن عدم توفّر ثمن المعاينة. فعاتبها الطبيب، بشدَّة، وخفف عنها، قائلاً لها: "أنا مدين لكم. ومعالجتي لكم بالمجَّان، ليس لكونكم فقراء، بل لأنني مدين لكم بحياتي".
حين تحسَّنت حالتي، سألت جدتي، لماذا كان يقول الدكتور عاصم هذا الكلام؟!. وبماذا هو مدين لنا؟!. فردَّت جدَّتي، رحمها الله: لأن جدَّك سليم، أنقذ حياة أبو الدكتور عاصم من بين أيدي العرب، أثناء "طوشة البكَّارى". كانت قبائل العرب ستقتل محمد أمين قردو، لولا جدّك. ويبدو أنه أوصى أبنه الدكتور عاصم بنا. فلولا إنقاذ جدك لوالد الدكتور عاصم، لما أبصر هو الحياة أيضاً.
صورة أخرى، لا تبارح مخيالي، وهي، حين كنت أذهب لبيت جدَّي، القريب من مبنى الجمارك في الدرباسيَّة، وننام في الحوش على التخت, صوت المحرِّك، وهدير القطار، لا زالا يطنَّان في أذنيَّ، يهندسان ذلك المساء البعيد، في هذه اللحظات أيضاً، في خيالي، وأنا أردُّ على سؤالك. نعم، كانت الأصوات والروائح وقتئذ، تصقِّل خيالي أكثر من الألوان. وأحسبُ الآن أن الأصوات والروائح، كائناتٍ مثلنا، لها أرواح ولغات ووعي.

 بحديثك الممتع هذا عن طفولتك, لفت نظري أن المشهد الأول والثالث, مشهدان ريفيان, لهما علاقة بالطبيعة, ولعليّ، لا أبالغ إذا قلت لك: إن كل ملحمة كردية، لها علاقة بالطبيعة. السؤال هنا: ما الذي تفعله المدينة بالكردي وما الذي فعلته بك؟.

حين كنت ناشطاً سياسيَّاً، دائماً كان تستهويني قرى الدرباسيَّة، وبخاصَّة، قريتي "تل أيلول"، و"جه طه له". كنتُ أعتبر هاتين القريتين، جناحي الدرباسيَّة التي تحلِّق بهما، في فضاءات سهل ماردين. كنت أقول: "تل أيلول" نافذة الدرباسيَّة" و"جه طه له"، رئتها. أحبُّ بساطة الريف وبراءة أجوائه. لكن، أتجنَّب بعضاً من السلوك الريفي، الذي يكتنفه السذاجة الممزوجة باللؤم. ولا شكَّ أن الريف هو حاضنة المدينة، والأخيرة هي الشكل الأكثر تطوراً للريف. لكلِّ منهما مساوئه ومضَّاره. وطوبى لمن يُنجزُ ريفاً في المدينة، ويُنجزُ مدنيَّة في الريف. ومدننا الكرديَّة في كردستان السورية، لم تقطع بعد، حبل سرَّتها مع منشأها الريفي. فلا زالت خليطاً من العلائق الريفيَّة والطبائع المدنيَّة في آن. وليس جزافاً إن وصفتها، بـ"القرى الكبيرة". خلافاً للمدن الكبرى في سورية كدمشق أو حمص وحلب. فقد ترسَّخت طبائع وسلوكيات وأخلاق المدنية الحديثة في سلوك قاطنيها، ربما منذ الأربعينات والخمسينات. وكان للانتداب الفرنسي دورٌ هام في ذلك. ثم، إن حين سعت العولمة إيجاد توليفة لما يجري في المعمورة، على ضوء ثورة التقانة والمعلوماتيَّة، ارتأى المفكرون والساسة بأن الأنسب لوصف هذه الحال التواصليَّة التقاربيَّة التواشجيَّة بين البلدان والشعوب والثقافات والحضارات، هو اصطلاح "القرية" الكونيَّة.

 وهل توافق على مقولة أن المدينة كانت تاريخياً هو المكان الذي يذوب فيه الأكراد؟ ولعل حالة أكراد دمشق وحماه خير دليل على ذلك.

لقد قدَّمت لي الدرباسيَّة، كمدينة كرديَّة، الكثير. وقدمت لي دمشق الكثير. لكن، أحببت بيروت أكثر من دمشق. عشقتها وافتتنت بها. ولي معها قصص غرام كرديَّة. وقصص ثقافة كرديَّة. تاريخ دمشق، مرتبط أكثر بالتجارة، بقوانين العرض والطلب، بالمصالح، وليس بالمبادئ. لذا، فلا غرابة أن تنتعش فيها أصول وفنون المتاجرة، في كلِّ شيء. دمشق، كانت وما زالت، سوق للتصريف، وليس مصنعاً للإنتاج. لا أجازف، إذ أقول، إن طباع دمشق، هو أقرب لطباع المدينة الخانعة، أو المرأة التي ترتضي النوم في حِجًرِ الأقوى، والأكثر استبداداً. خنعت للروم. ثم خنعت للأمويين، واستبدادهم وبطشهم بآل البيت!. ثم خنعت للمغول، ثمَّ العثمانيين، ثمَّ الفرنسيين. تاريخ دمشق، يشي بأنها كانت دوماً حليفة الاستبداد. وهي الآن، سيئة السمعة والصيت. إذ ينتعش فيها الفساد والاستبداد والظلم والجور والتلوّث السياسي والثقافي والاقتصادي!. أوَّل مرَّة زرت فيها دمشق كان، صيف 1988. كان عمري وقتها، 12 عام. ورزتها ثاني مرَّة في سنة 1995. وثالث مرَّة في شتاء 1997، حيث كان مراسيم إعلان عمَّي ديار أوسي شهيداً. وآخرَ مرَّ زرت فيها دمشق، بداعي الاستقرار كان في 9/9/1998. بدأت أجوب دمشق، أتردد على مراكزها الثقافيَّة، أحضر المحاضرات التي تلفت انتباهي، والأمسيات الشعريَّة لبعض الشعراء. التقيت بالماغوط، وبممدوح عدوان، وأجريت معه حوار صحفي مطوَّل، حيث دعاني لبيته. والتقيت بمظفر النوَّاب في بيته. والتقيت بمصطفى الحلاَّج في مرسمه، وأجريت معه حوار مطوَّل قبل وفاته محترقاً في مرسمه وبين لوحاته. التقيت بالمرجع الشيعي العلاَّمة محمد حسين فضل الله، وأجريت معه حوار صحفي، وكان مسروراً جداً بهذا الحوار. في دمشق، اجتهدت في الانفتاح على الحراك الكردي السوري أكثر، وعلى الشخصيَّات المعارضة من الأخوة العرب. في دمشق توسَّعت مداركي وعلاقتي بالكثير الكثير من الكرد والعرب. في دمشق، بدأت علاقتي الفعليَّة مع الكتابة والصحافة سنة 2000، رغم أنني بدأت بالكتابة، ونشرت بعض نصوصي العربيَّة سنة 1995. لقد استفدت من دمشق كثيراً، لأنني أردت ذلك. وأعتقد أن الكرديَّ، يستطيع أن يأخذ من المدن؛ دمشق، بغداد، أنقرة، طهران، وأيَّة مدينة أخرى، إن هو أراد ذلك. وقناعتي، ينبغي على الكرديّ السوريّ، أن يأخذ دمشق إلى القامشلي، لا العكس. عليه أن يضع القامشلي وعفرين وكل المدن الكرديَّة على أجندة دمشق. واعتقد، إن لم يستطع الكرديّ أخذ شيء من دمشق، وفي محنتها، فلن تعطيه هذه، شيئاً من حقوقه عليها، إنْ هي تعافت، واجتازت المحنة. وبل ستأخذ دمشق المزيد من الكرديّ، وترميه بالتجاهل والتهميش، وبالرصاص والسجون، كما هي الآن. بالنتيجة، إن كانت كرديَّة الكرديّ متينة، ورصينة ومتزنة، فالمدن، هي التي ستهابه.

 "كانت الأصوات والروائح وقتئذ، تصقِّل خيالي أكثر من الألوان", قولك هذا يثير فضولي بسؤالك عن علاقتك بالألوان, وأنت تكتب الشعر أيضاً, هل ينتابك الشك أحياناً بالألوان التي ربما لا يلتفت لها بصرك أحياناً؟.

علاقتي بالألوان حميمة. وثاني مجموعة شعرية ليّ، باللغة العربيَّة، كان عنوانها: "ارتجالات الأرزق". وإن كنت قد قرأت شعري، فستجد حضوراً مهرجانيَّاً للألوان، والبهرجة اللونيَّة. ولكن، لأنني دائم الشرود، أثناء السير، ودائم التأمُّل، فالخيال والأفكار، تأخذني من مكاني. وينتابني حالة من الفكاك مع ما حولي من أشياء وألوان. ويبقى شذر الأصوات والروائح، تصاحبني في رحلتي صوب أعماقي. شحُّ البصر لديَّ، لا يسعفني في رؤية تفاصيل الأشياء عن بُعد. لذا، تغدو الألوان، هي الطاقة التي استعيض بها عن الغوص في التفاصيل. فإن كانت الأصوات والروائح تصقِّل خيالي، فإن الألوان تصوغه كلاماً.

 ما الذي تحتفظ به من تلك المرحلة حتى الان ؟

 سأقصُّ عليك شيئاً، دائماً ما استحضره، أثناء الحديث عن الديمقراطيَّة. كانت تجرى انتخابات في الصف على من يجب أن يكون العريف. كان البنين يرشحونني، والبنات يرشِّحون فتاة آشوريَّة اسمها ميرفت. ويبدأ التصويت، فأفوز بفارق صوت أو صوتين، على الرغم من أنني كنت أصوِّتُ لخصمي، ميرفت!. ويتكرر هذا المشهد في كلا فصليّ الدراسة، وطيلة ثلاثة أعوام. وميرفت المسكينة، والجميلة، كانت تخسر الانتخابات، وتبكي. فكنت، أذهب لمواساتها والتخفيف عنها، والقول لها: إنْ شئت، سأترك لك منصب العريف. لكنها كانت تكابر، وترفض، وهي راغبة.
أقولها دوماً، كانت تلك الانتخابات، أنزه وأشرف وأصدق انتخابات في تاريخ سورية، منذ الاستقلال ولغاية اللحظة. لقد كانت انتخابات حقيقيَّة، ومباشرة، وعلنيَّة، وتحسم النتيجة في اللحظة والتوّ. وللآن، لا أعلم، لماذا كلُّ أحلامي أثناء النوم، آتية من المرحلة الابتدائيَّة، ولا أذكر أنني حلمت حلماً واحداً، عن المرحلة الإعداديَّة!.

 هل تذكر متى استهوتك السياسة أو بدات تشعر بانتمائك القومي .؟

ما أن بدأتُ بوضع قدمي على حوافِ مرحلة المراهقة، حتَّى استلبتني الأفكار الكبرى، كالحريَّة والاشتراكيَّة والثورة والنضال من أجل كردستان. وبدأت أحسُّ أكثر بتمايزي القومي عن الآخرين. وبدأت مداركي القوميَّة تتفتَّق على إيقاع الثورة والنضال التحرري الكردستاني. وألقت بيَّ الأقدار صوب هذه الورطة الرائعة. سنة 1990، كنت في الصف السابع. كان الطلبة الكرد، يعرفونني بأنني مهتمَّ بالشأن السياسي، ودائم التحدُّث عن النضال، وضرورة أن يركِّز الشباب اهتمامهم على متابعة أخبار النضال، والالتصاق بالقضيَّة الكردستانيَّة. وردُّ الاتهامات المنهالة على النضال الكردستاني من الأحزاب الكرديَّة السورية على الثورة الكردستانيَّة وزعيمها. كان أحد أصدقائي، هو عبدالباقي حاج موسى، أبن أخ الأستاذ عبدالحميد درويش، حسبما أظنّ. وأعتقد انه الآن، تخرَّج من كليَّة الصيدلة. هذا الشاب، كان يلازمني دوماً. ونتحدث دوماً. وأذكر انه لم يكن يعرف اسم رئيس حزب العمال وقتها، وكان يلفظه: بعدالله أوجلي.
معاناتي في المرحلة الإعداديَّة لم تختلف عن التي كانت في المرحلة الابتدائيَّة. فقرٌ، وشحُّ في البصر. كان رسم فتح دورة رياضيات صيفيَّة وقتها 150 ليرة. ودفع، هذه الـ150 ليرة، كان بمثابة الترف والبذخ لدي. لذا، استعنت بصديقين عزيزين جدَّاً على قلبي، هما: مصلح سينو، بالدرجة الأولى، ومحمد باقي المجيد، بالدرجة الثانيَّة. كانا يساعداني في مراجعة بعض الدروس في الرياضيات واللغة الإنكليزيَّة، بخاصة، مصلح. انا مدين لمصلح ومحمد باقي، في هذا الحيّز، وهما أستاذاي، ما حييت.
لم أكن أرى فحوى ورقة أسئلة الامتحانات، وكان المراقبون يقرأون لي هذه الأسئلة، وأنا أجيب عليها. لقد كان وضعاً في غاية الصعوبة والعُسر. اجتزته، وظهرت النتائج، وحسب توقعاتي وحساباتي أنا وأستاذي مصلح، كان درجاتي يجب أن تصل لـ210 درجات من أصل 290 درجة وقتها. وكانت النتيجة أنني حصلت على 206، أي بفارق 4 درجات فقط عمَّا كنَّا نتوقَّعه. واعتبرَ الكثير من أصدقائي هذه النتيجة التي حصلت عليها 206 درجة، بأنها المرتبة الأولى، قياساً بشخص مثلي، يعاني من حال ماديَّة وصحيَّة مزرية.
بالنتيجة، اتجه هوشنك للعمل السياسي في شتاء 1993، وكان أصغر ناشط ضمن فريق العمل وقتئذ. كان عمري حينئذ 17 سنة. كنتُ منكبَّاً على قراءة كتب عبد الله أوجلان والكثير من الكتب الماركسيَّة ومختارات لينين، ومختارات مو تسي تونغ، وكتب غيفارا. هذه المرحلة التي تكاد تخلو من مظاهر المراهقة، هي من أهم المراحل في حياتي. هذه السنين الخمس، من شتاء 1993 ولغاية أيلول 1998 في الدرباسيَّة، حين كنت ناشطاً، هي التي صنعت هوشنك أوسي.

 طالما فتحنا ملفات الطفولة، سأسألك أكثر المرات التي بكيت فيها بحرقة، وأنت صغير؟. وأكثر بكائك أساً في مرحلة النضوج، كما يسمى اجتماعياً؟.

في الطفولة، كنت حساساً للغاية، حيال ما كان يذكِّرني باليتم أو الفقر أو عاهتي، ساخراً أو مستهزئاً. وغالباً ما كنت أبكي، حتَّى لو لم تكن دموعي تسيل. شخصيَّاً، لا تحضرني الذاكرة. لكن، أمِّي كانت تقولي لي دوماً، وبعد أن توفِّي أبيّ سنة 1980، وكان عمري وقتها 4 سنوات. قالت أميِّ بأنني طالبت منها 5 قروش، أو فرنك. لكنها رفضت، وبكيت بكاءاً مرَّاً وغزيراً. لدرجة أن امِّي قالت بأنني كانت شهقات بكائي مستمرَّة حتى وأنا نائم. وقالت أيضاً: أن والدي، زارها في الحلم، معاتباً إيَّاها بشدَّة، قائلاًَ: لماذا لم تلبي الطفل ما طلب؟!.
أمَّا آخر بكاءٍ كان، قبل فترة، إذ ودعتني إحدى المناضلات اللاتي أمضين 18 سنة في صفوف الثورة، غادرتني للجبال. هذه المناضلة، الكرديَّة السوريَّة، أعرفها منذ أكثر من ستة أعوام. لقد كانت طالبة جامعيَّة، سنة ثالثة في كليَّة الهندسة المدنيَّة، جامعة حلب. قام "الإرهابيون" بخطفها !!، من على مقاعد الدراسة الجامعيَّة، وأجبروها على البقاء ضمن الثورة، لمدَّة 18 سنة ّّ!!. وبذا، صارت هذه المناضلة، أسيرة الجبال. هكذا، يستميت بعض الناقمين الحاقدين، في تشويه هذه الثورة، بأنها نتاج خطف الأطفال من أحضان أمهاتهم!.
 


في تلك المرحلة, من أحببت أن تكون؟ من الذي قررت أن تنافسه من الشخصيات التي كنت تراها كبيرة بأن تكون مثلها أو ما يضاهيها؟.

كلّ من التقيت بهم، وصاحبتهم، أو تعاملت معهم، أو تواصلت معهم، أثَّروا فيَّ كثيراً. لا يمكنني أن أحصي لك عددهم. ثق، لم تراودني فكرة أن أصبح زعيماً، أو كاتباً أو شخصاً مهمَّاً. على مقاعد الدراسة، الذين كنت أودُّ منافستهم، كانوا كُثُر. والذين كانوا يودون منافستي، أيضاً كانوا كُثُر. تأثَّرت كثيراً بمناضلي حزب العمال. حتَّى الذين خانوه، وفرَّوا من بين صفوفه، لا زلت أحتفظ بما هو جميل عنهم. لقد عملت مع نشطاء وكوادر هذا الحزب، وكتبت عدَّة رسائل للحزب، بغية قبولي بشكل رسمي، كناشط متفرِّغ بينهم، إلا أنهم رفضوا، بسبب وضعي الصحي. وكانوا يكتفون بأن أكون ناشطاً ضمن المدينة، ويسوانني دوماً، مثنين على جهودي. تأثَّرت بمظلوم دوغان، ولا زلت، ولم يكن لدي هاجس أن أكون مظلوم دوغان.
 

كيف هي علاقتك بأطراف الحركة السياسية الكردية؟

قبل بيان الحداد المشؤوم، والإجماع الكاذب حياله، كان تواصلي معها، جيّد. كان تواصلي معهم، من جانبي على الأقلّ، بمنأى عن الخلفيَّات الأيديولوجيَّة. وكنت من أكثر الناشطين والمتابعين في الأمسيات الثقافيَّة الكرديَّة في دمشق، التي ينظِّمها ثلاثة أحزاب، لدرجة أن الكثير، كان يعتبرني عضواً في لجنتها التحضيريَّة. ورغم أنني كنت ألمس تحفُّظات كثيرة من قبل بعض الحزبيين، نتيجة تأييدي لحزب العمال، ورغم أنه كان يتبادر إلى مسمعي الكثير من النمائم والاغتياب الذي كان يطالني من قبل بعض الأحزاب، إلاَّ أن تواصلي مع تلك الأحزاب بقي مترفِّعاً عن الصغائر. أحد الأحزاب المشاركة في تنظيم هذه الأمسيات، اقترح اسمي، لأكون عضواً في اللجنة التحضيريَّة، نتيجة مشاركاتي الفاعلة في هذه الأمسيات. فرفض الحزبان الباقيان. هل تعرف لماذا؟!. ليس لكوني نكرة ثقافيَّة، أو لا أجيد الكتابة باللغة الكرديَّة والعربيَّة، بشكل لا بأس به، بل لأنني مؤيد لأفكار أوجلان!. هل رأيت في حياتك ديمقراطيَّة أنضج من التي لدى هذه الأحزاب!؟. ورغم تسريب خبر وسبب رفضي من قبل هذين الحزبين، مع الرجاء على عدم الإفصاح عنه، لم يطرأ على تواصلي معهما أيُّ تغيير. وبقيت على تواصلي، وتقديم الاقتراحات للجنة التحضيريَّة، والدعاية لهذه الأمسيات على النت، وفي فضائيَّة "روج تي في"، أكثر من مرَّة، وكأنَّ شيئاً لم يكن. ولكن، بعد توقيع هذه الأحزاب الثلاث على ذاك البيان المشبوه المشؤوم، بحجَّة الإجماع الكاذب، قررت مقاطعة هذه الأحزاب، وأيَّ نشاط سياسي أو ثقافي، هي التي تقف ورائه، ولو على بُعد أميال ضوئيَّة. وقد كتبت مقالاً حول ذلك، بعنوان: قاطعوا الأحزاب الكرديَّة. وبدأت بسلسة مقالات نقديَّة حول ماضي وراهن هذه الأحزاب، ولمَّا أزل ماضياً في هذا المسعى.

كانت تجمعك علاقات قوية على الصعيد الشخصي بحزب آزادي , أليس كذلك ؟

 طلب منِّي حزب آزادي الكردي في سورية، ترجمة بيانه الاندماجي التأسيسي من العربيَّة إلى الكرديَّة، فوافقت عن كلِّ طيب خاطر، وقمت بالترجمة. ثمَّ طلب منِّي هذا الحزب، ترجمة الورقة المتعلقِّة برؤيته لحلِّ القضيَّة الكرديَّة في سورية، من العربيَّة إلى الكرديَّة، فوافقت عن كلِّ طيب قلب. ثم طلب منِّي هذا الحزب أن أكون عضواً في لجنة نوبهار الثقافيَّة التي يتولَّى آزادي دعمها، فوافقت عن كلِّ طيب خاطر، وأعتقد ان السيّد خيرالدين مراد على علم بذلك. وقيادة آزادي في دمشق على علم بذلك. ولا زالت تربطني علاقلات شخصيَّة واحترام متبادل، مع الكثير من قيادة آزادي في دمشق. لكن، لأن حزب آزادي هو أيضاً وقَّع على ذاك البيان، لأنه ليس بمنأى عن الخراب والعطب الحاصل في الحركة الحزبيَّة، ولأنه تهاون وهادن كثيراً مع العابثين بهذه التجربة من الخارج والداخل، ولأنه رضي أن يكون مطيَّة لفؤاد عليكو ومشعل تمّو، فلا مناص من النقد الحازم والصارم بحقِّه. ولقد قلت في سياق مقالي الأول: "قاطعوا الحركة الحزبيَّة..."، إن لم تقدِّم هذه الحركة اعتذاراً من الشعب الكردي وشهداء ليلة 20 آذار المنصرم، فلا مرحبا بهذه الحركة!.
 

  يعرف عنك بمقالاتك النقدية اللاذعة ضد الجميع. وأنا لم أجدك تستثني أحداً. لكن  منذ نوروز 2008 أصبح لك منهج كتابي انعكس حتى فيما نشرته في صحيفة "الحياة اللندنية". ما تقييمك لما حدث ليلة نوروز؟.

أمَّا عن المنهج الخاص في الكتابة، فهذا ما أسعى إليه، قبل مجزرة 20 آذار 2008. وقضيَّة إنجازي لهذا المسعى أو إخفاقي فيه، متعلِّق بالمراس والتجربة ورأي القرَّاء. أمَّا فيما يتعلَّق بما جرى في ليلة 20 آذار، فقد ذكرته في مقالاتي السابقة. لقد كانت مجزرة، بكل ما للكلمة من معنى. وكان هدف القتلة، حصد الكثير من الأرواح البريئة. ولعل الهدف الأبرز، هو جسُّ نبض الشارع الكردي، ومعرفة منسوب الشحنة الآذاريَّة المتبقيَّة لديه، على خلفية انتفاضة 12 آذار سنة 2004. وهل أنجزت الحركة الحزبيَّة مهمتها في تفريغ هذه الشحنة أم لا!؟. وسقطت الحركة الحزبيَّة في الامتحان، إذ فشلت في تفريغ شحنة أو طاقة انتفاضة آذار، وتمييع الشارع الكردي، وجعله طيع أمر السلطة. وخرجت مئات الألوف للاحتفال بعيد النوروز، رافعين أعلامهم وصور شهداءهم. وعقب فشل الحركة الحزبيَّة في مسعى تفريغ تلك الشحنة النضاليَّة القوميَّة العفويَّة، وإصابة هذه الحركة بانتكاسة كبيرة لدى السلطة، بدأت حركتنا الحزبيَّة، بتنفيذ المرحلة الثانية من مجزرة 20 آذار. وهي تأليب الرأي العام الكردي، على حَمَلَة الرايات الكرديَّة وصور الشهداء، وعلى الفصيل الموالي لحزب العمال الكردستاني، وكل نشاط جماهيري، فيه بذرة العصيان المدني والنضال الجماهيري السلمي الديمقراطي. وستفشل في هذا المسعى أيضاً. هذا هو باختصار، رأيي لما جرى في 20 آذار، وما يجري بعده.
 

  ما أريد ان أسأل هو ألا يخضع النقد بشقه السياسي والفكري لأولويات ظروف المرحلة, كيف نتعامل مع هذه الثنائية, كشف الخطأ الداخلي أم مواجهة الخصم الخارجي؟.

لا يمكن مواجهة الخصم الخارجي، إلا بعد أن يكون البيت الداخلي سليماً معافى. فلو كانت الحركة الحزبيَّة، سليمة وصحيَّة ومرتبَّة من الداخل، لما نجح حزب العمال الكردستاني في استقطاب مئات الألوف من الكردي السوريين. لقد رأى الكرد السوريون في حزب العمال تجربة طازحة، وطوق نجاة من هذا الخراب المعشش في الحركة الحزبيَّة. ودفعوا ضريبة تأييدهم لهذه الثورة أكثر من 5 آلاف شهيد. ولم يبخلوا بالغالي والنفيس في سبيل هذا الحزب. ولمَّا يزلوا في هذا السعي النضالي الدءوب. لماذا لا تقدم الأحزاب الكرديَّة السوريَّة نقداً ذاتيَّاً ومراجعة نقديَّة جريئة وجادة، وتستخلص العبر من هذه التجربة!.
لذا، ليس من المجازفة القول: لا خوف على المجتمعات الناقدة. وإن لم ينجز الشعب الكردي السوريّ المجتمع الناقد، سيكون عاجزاً عن نقد الآخرين.
إن تناولتَ خراب الحال السياسيَّة الكرديَّة نقداً، حازماً، صارماً، واضحاً، صريحاً، واضعاً ثلَّة الأحزاب الكرديَّة وقادتها قيد المساءلة، وتطالبها إجراء جردة حساب عن المنجز السياسي والفكري والثقافي، قوميَّاً وطنيَّاً، لهذه الزعامات الحزبويَّة، حينئذ، يتهمونك بالشخصنة، والنقد الهدَّام، وكأنهم لا يقولون، قياماً وقعوداً، إن أنانيَّة قادة هذه الأحزاب، وخصوماتهم الشخصيَّة هي السبب الأبرز في تسميم الحال السياسيَّة الكرديَّة، وزيادة منسوب العطالة فيها!. وكأنهم، بنقدهم "البنَّاء"، قد أنجزوا فتوحاً، فاقت فتح القسطنطينيَّة!. وكأنهم بنقدهم "البنَّاء"، ساهموا في ردِّ سدنة هذا الخراب عن التمادي في مواصلة تعطيل الحال السياسيَّة الكرديَّة في سورية!. فأكرم بهذا النقد "البنَّاء"، لو كان قد أنجز 2 % من عوائده وتأثيراته على هذه الأحزاب الشلل!.
من يتحدَّث عن النقد البنَّاء، ويذكر تحفظاته، وأحياناً، رفضه، لما ذهبت إليه، من نقد للحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية، ويوصف النقد السياسي، بأنه ليس "معول هدّ"، فيبدو أنه لا يعرف ماذا تكتب الصحافة الأمريكيَّة بحق إدارتها، وهي في حالة حرب مع الخصوم، كالقاعدة ومحاور الشر، وماذا تكتب في حقّ قيادتها، وكيف يتعاطى الغرب المتقدِّم عنَّا بسنوات ضوئيَّة مع أحزابه وحكوماته وزعاماته من نقد شديد الصرامة والحزم.
 

    لكن , هناك ضغوط كبيرة من جانب النظام على الحركة السياسية الكردية رغم كل شيء, ألا ترى أن النقد الداخلي ليست اولوية في هذه المرحلة ؟

طيّب، لنترك النقد جانباً ونتفرَّغ للخصم الخارجي. وبالنظر لراهن كرد سورية، دون نقد ذاتي، شديد الحزم والجزم والعزم، لنحاول تصوُر ماذا سيكون عليه حالنا، بعد نصف قرن. أي في سنة 2058 م. اعتقد جازماً، بأننا سيكون لسان حالنا ما يلي:
أصدرت الأحزاب الكرديَّة الـ 99 بياناً شاجباً ومندداً للمجزرة التي ارتكبتها السلطات السورية في عفرين، وراح ضحيتها (...) أشخاص، مطالبة النظام السوري، بتشكيل لجنة تحقيق نزيهة وحياديَّة، ومحاسبة المجرمين القتلة، واعتبار هذه الجريمة مؤامرة بحق الشعب الكردي وإرهاب دولة...الخ.
أرسل سكرتير الحزب التقدمي الديمقراطي الكردي في سورية، برقية تهنئة بمناسبة عقد قران كريمة رئيس العراق المام قباد طالباني على نجل رئيس إقليم كردستان العراق كاك مسرور بارزاني، وتمنَّى لهم حياة سعيدة، وبالرفاه والبنين، والف مبروك.
كشف (...) درويش، نائب رئيس الامانة العامة لإعلان دمشق، بأن الإعلان يدين ويستنكر اعتقال نجل الراحل كمال اللبواني، والراحل علي العبدالله، والراحل عارف دليلة، وطالب السلطات السورية برفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإعادة الجنسيَّة للمجرَّدين منها، وحل القضيَّة الكرديَّة...الخ.
أصدرت الاحزاب الكرديَّة الـ99 بأن المباحثات حول إيجاد مرجعيَّة كرديَّة سورية، لا زالت جاريَّة، وإن سبب تأخُّر الإعلان عن المرجعيَّة، هو بعض التعنت الذي تبديه بعض الأطراف الكرديَّة...الخ!.
هذا هو ملمح مما سيكون عليه حال أكراد سورية، بعد نصف قرن، إن بقي الوضع على ما هو عليه. إذن، بدون النقد، ينعدم الزمن في المجتمعات. أوروبا أنجزت نهضتها بالنقد. النقد، ملح العصر والنجاح والتطوّر. أمم دون نقد ونقد ذاتي، هي أشباه أمم.
 

    كثيراً ما يلفت القارئ اسمك على مواقع الانترنت الكردية، وأنت ترد أو تهاجم بعض الذين يدافعون عن حزب سياسي وغيره, ألا تجد من غير اللائق على كاتب مثلك في أكبر الصحف العربية "الحياة, المستقبل...," ومجلة "سورغول" أن ينغمس إلى تفاصيل الحياة الحزبية الكردية؟.

دون الانغماس في التفاصيل، والغوص فيها، والاشتغال عليها، لن نتوصَّل لفهم الخطوط العريضة وبلورتها. أجد لزاماً عليَّ ومن واجبي المناط بيَّ، ألاَّ أترك المجتمع لثَّلة الكتبة الأفَّاقين الحاقدين. أنا لا أهاجم حزباً أو فريقاً سياسيَّا بعينه، بل أنتقد حالة سياسيَّة كرديَّة سورية راكدة، قوامها الشقاق والعجز والعطب والتلف. داعياً القائمين على هذه الحال، إلى الإصلاح والتغيير، ومراجعة الذات ونقدها. وبديهي أن أصادف في طريقي بعض سدنة هذا الخراب، من أدعياء الثقافة، بكامل غيِّهم وحقدهم. ومن باب الالتزام بمسؤوليتي كمثقف اتجاه شعبي ومجتمعي وقضيتي، لا أجد غضاضة في تعريف المجتمع بمدى زيف بضاعة هؤلاء الذين لم ينجزوا سوى الفشل والأحقاد والشقاق!.

 هل مشكلة الحركة السياسية الكردية هو بشخص واحد اسمه عبد الحميد درويش , وهل صفة الاستسلام تلصق به وحده, يوجد غيره من الذين أصبحوا قيادات في أحزاب أخرى حديثاً ويذهبون في ضوء النهار إلى الفروع الأمنية, ألا ترى ان الرجل (عبد الحميد) أخذ أكثر من حقه في النقد؟.

الأستاذ درويش، ليس مستسلماً. صفة الاستسلام لا تنطبق عليه. الرجل متصالح مع قناعاته وأجندته، ويعمل لأجل تحقيقها بإخلاص. وقد كتبت حول هذا الأمر في مقال: "خمسون عاماً نزداد خراباً"، وذكرت أن كل قادة الأحزاب الكرديَّة مسؤولون عن هذا الخراب. ليس عيباً، أن يذهب الاستاذ حميد لدى السلطات الأمنيَّة، ومحاولة إيصال وجهة النظر الكرديَّة لهم. فسورية، هي "دولة أمنيَّة"، بتعبير طيب تيزيني. والأمن هم قادة الحزب والدولة. وهذه قضيَّة معروفة للقاصي والداني. لكن، أن ينسجم أداء الأستاذ درويش مع الأجندة الأمنيَّة للسلطة، هذا ما يثير المخاوف والأسئلة والشبهة والارتياب. في سورية، الأمن هو الدولة، والدولة هي الأمن. وعليه، لا حرج على كل قادة الأحزاب الكرديَّة من التواصل مع الأمن، وينبغي أن يتواصلوا، لكن بنديَّة، وليس بمنطق الاستجداء والتسوّل والتملُّق. لكن، الفضيحة، أن يعلي بعض قادة الأحزاب الكرديَّة صراخهم في نقد السلطة في سورية، وينتقدون الأستاذ دوريش، وفي الوقت عينه، يتهافتون على مراكز الأمن، لتقديم فروض الطاعة!. بالنتيجة، لا شكَّ أن الأستاذ عبدالحميد درويش قامة سياسيَّة كرديَّة سورية. ومن حقِّه علينا نقده، ومن واجبه سماع هذا النقد، مهما كان هذا النقد لاذعاً. يجب ألاَّ يطالبنا السيّد حميد درويش بإرجاء نقدنا له، بعد وفاته، بعد عمر طويل، إن شاء الله. نقده في وجهه، وعلى حياته، أفضل من نقده بعد رحليه.

 سأذكرك بمقال كتبته بعد التوقيع على "إعلان دمشق", كتبت مقالاً على ما أذكر بعنوان "إلى من يهمُّه ومن لا يهمُّه .... أنا مع إعلان دمشق". والمؤكد، أنك لم تنس من هي الأطراف الكردية الموقعة عليها. وهي الأحزاب التي تسميها بالمعطوبة, ما تعليقك؟. وهل موقفك؟ ما زال كما كان بالنسبة لإعلان دمشق؟ أم تعتبره قد فشل؟

حين تولَّى الرئيس السوري الدكتور بشَّار الأسد الحكم في سورية، تفاءلنا خيراً. وحين ألقى خطاب القسم، تفاءلنا أكثر. وحين أطلع هامش الحريَّة لعقد الندوات والصالونات والمنتديات، ازددنا تفاءلاً. وحين قال الرئيس، في بداية عهده، بأن مسألة الكرد السوريين المجرِّدين الجنسيَّة على خلفيَّة إحصاء 1962 في طريقها للحلّ، طِرنا من شدَّة التفاؤل. لكن، حين طوي ربيع دمشق، واتضح إن كان كذبة نيسان، وحين إطلق الرصاص الحيّ على الكرد في القامشلي في 12 /3/2004، وحين تمّ اختطاف الشيخ الخزنوي لجهة مجهولة، وعُثر عليه مقتولاً، وحين أطلق الرصاص الحيّ والحربيّ على الشباب الكرد في القامشلي، عشيَّة عيد النوروز، في 20/3/2008، سقطنا، من شامخ تفاؤنا على قاع أوهامنا، فانقرفت رقابنا، لأننا تفاءلنا أكثر من اللازم!. وكذا الحال، مع إعلان دمشق. فحين تمَّ الإعلان عنه، تفاءلنا خيراً، بأن الأخوة العرب، من المعارضين للنظام، باتوا على مقربة من أنين الكرد ومعاناتهم، وقد اجتمع المضطهدون السوريون على سلَّة أفكار وطنيَّة مشتركة، تضمن للكرد السوريين، الحد الأدنى من حقوقهم، إذما استلمت جماعة هذا الإعلان السلطة في دمشق. وحتَّى مع وجود الالتباس في التعاطي مع القضيَّة الكرديَّة من قبل بعض الأخوة العرب، وتحفظات قوى كرديَّة أخرى على هذا الإعلان، ومع أن بعض الأطراف الكرديَّة ضمن الإعلان، قد أقصت الكثير من الأحزاب الأخرى عن التداول في أمر هذا الإعلان وصاغيته والاشتراك فيه، واستفردت بالقرار الكردي فيه، مدفوعة بأنانيَّة وانتهازيَّة فارطة، رغم كل علل ومساوئ هذا الإعلان، قلت أنني معه. علَّه يصبح حاضنة لولادة معارضة حقيقيَّة في البلد. لكن، اتضح أن العرب، كانوا يودون استثمار الأحزاب الكرديَّة، الأكثر تنظيماً وجماهيريَّة وفاعليَّة من أحزابهم الخلَّبيَّة. وإن الأحزاب الكرديَّة، لا تستطيع أن يكون لها يد مع السلطة ويد مع المعارضة. والحقُّ، ألاّ معارضة، في سورية. لا إعلان دمشق ولا غيره. لقد فشل إعلان دمشق، حتَّى في الدفاع عن نفسه، فما بالك في إجراء تغيير ديمقراطي في النظام، حسب زعم أهل ذلك الإعلان. وإن أفضل ما في ذلك الإعلان، بأنه كان إعلان وحسب.

من خلال ردودك على الخواطر السياسية لبعض من ينتقدونك  اسمح لي أن أقول أنك انت الذي حولتهم لكتّاب. وأضفت لرصيدنا الكردي من هؤلاء ما نعاني منه أصلاً؟.

هل رأيت في كلُّ مقالاتي السالفة، أنني أدرجت إحدى هذه الأسماء المزيِّفة؟!. طبعاً، لا. لأنني أعرف أن هذه أسماء كاذبة. وأعرف بعض من أصحاب هذه الأسماء. ولا أذكرهم بأسمائهم الحقيقيَّة أيضاً. بالنتيجة، لن أمنحهم شرف إيراد اسمهم المزيَّفة في سياق مقالي. حين أساجلهم أو أجادلهم، فليس بهيئتهم المزيَّفة التي يطلُّون بها، بل بهيئتهم الحقيقيَّة التي أعرفها. ثم، يا سيّدي، ليس هوشنك أوسي بالمنزلة التي يمكنه فيها إضافة اسم كاتب أو يصنع كاتب، ويضيفه لقائمَّة الكتَّاب الكرد السوريين. كلُّ يصنع نفسه. و"ما ينفع الناس، يمكث في الأرض". والحاضر يشير إلى من هوشنك أوسي، وماذا يقدَّم لشعبه، وكيف يخدم قضيته، ومن هم هؤلاء العجر والبجر. وسيأتي اليوم الذي سيفصل فيه هذا الشعب الغثَّ من السمين، والصالح من الطالح، والحقيقيّ من المزيّف، والعاطل من الفاعل...الخ. ولن يجد الشعب عسراً في هذا. أمَّا انا، فأعتقد أنني قدمت شيء، وكسرت الجمود، وحرَّكت الركود، ولا أنأى بنفسي عن الخطأ. وشعاري هو قول الإمام الشافعي: "رأيي صائبٌ يقبل الخطأ، ورأيك خاطئ، يقبل الصواب".
 

أود الانتقال من الحديث عن السياسة إلى الحديث عن المرأة , ماذا يمكن ان تحدثنا عنها في الخاص والعام؟.

الحديثُ عن المرأة، هو حديثٌ عن خفايا التكوين، وألغاز وإعجاز الكون في اتساعه وغموضهِ، وجشعهِ في تفرُّدهِ بأن يكون الحاضن لنفسهِ ولغيرهِ. الحديثُ عن المرأة، كالحديثِ عن الماء والنَّار والتُّرابِ والهواء. الماء، الذي "منهُ كلُّ شيءٍ حيّ". الماء، لآلئ نداً، وبُخاراً وضباباً وسحباً وغيماً ومطراً وسيلاً وفيضاناً، وربما طوفاناً. والنارُ التي تدفئ وتنيرُ وتحرقُ. والترابُ الذي منهُ أتينا، وإليه نعود. والهواء، الذي إنْ اعتلّ، أنعشْ، وإنْ عصفَ، أجهشْ. المرأة، ركيزة الوجود، ومنصَّة الفناء. المرأة، سُحنةُ الأزل، ومكائدُ الأبد. لذا، لا تتعجَّبْ، إن قلتك لكَ: إنَّ وراءَ كلِّ رجلٍ سائرٍ نحو الجحيم، امرأة، وأمام كلِّ رجلٍ هانئ في الجنَّة، أيضاً امرأة. فالمرأة كنوزُ الجنَّة، ومفاتيح جهنَّم. المرأة، إنْ عشِقَتْ، أغدقتْ فأغرقتْ. وإنْ أبغضتْ، صعقتْ ودمَّرتْ وأحرقتْ. المرأة، ليست "إنسان ناقص التكوين. وكائن عرضي"، كما يقول توما الأكويني، بل هي "كوكب يستنير به الرجل. ومن غيرها يبيت في ظلام"، كما يصفها شكسبير. المرأة، هي التي زرعت في الرجل، نزعة التمرُّد على كينونة الأنا الأولى، وشجاعة اقتراف الإثم. لذا، فهي أكثر نزوعاً للحريَّة والتحرر من الرجل. المرأة، هي التي تختار لنفسها أن تكون حرَّة أم تكون أمة. المرأة، هي مقياسُ تحرر الرجل، والرجل، هو مقياسُ عبوديَّة المرأة. الرجل، يستمُّد حريته من المرأة، والمرأة، تسمدُّ عبوديتها من الرجل. المرأة، قصيدةٌ ألَّفها ملاك، ودوَّنها شيطان. المرأة، هي مزيج من الوطن والغربة، الحرب والسلام، الصفاء والعاصفة، التوبة والخطيئة. لكن، لا يجتمع في المرأة شيئان؛ الجمال والذكاء. لو لم يكن جمال المرأة شجاعاً وبليغاً، لما استطاعت حوَّاء، إقناع آدم على ضرورة الخروج عن الصيرورة، وسياقات الأمر والنهي، والتمرُّد على المشيئة. وعليه، حوَّاء، أقنعت آدم، بجمالها، وليس برجاحتها. فتصوَّر، كم كانت أمَنا حوَّاء رائعة الجمال، حتَّى غلبت رجاحة العقل الإنسي الأوَّل في الوجود!!. نعم، يا صديقي، الوجود، مدينٌ لجمال حوَّاء. وإنْ لاحظتَ سيَرَ كلِّ الأنبياء والعظماء والفلاسفة والقادة في التاريخ، لوجدت الدور المحوري للمرأة فيها. من آدم، ومروراً بإبراهيم ويوسف وسليمان...، وانتهاءاً بالنبيّ محمَّد. نابليون الذي كان يحكم فرنسا، وقاد غزوات جيوشها للشرق، كان يحبُّ في جوزفين، حتَّى رائحة تعرِّقها، إذ كان يكتبُ لها: "جوزفين، لا تغتسلي، فأنا قادم". نعم، الحديث عن المرأة، كالحديث عن الوجود والفناء، كلَّما أوغلت فيه، تجدُ نفسك على العتبة. وبعد كلِّ ما ذكرته لك عن المرأة، إنْ سألتني: هل كنت تودُّ أن تكون إمراة، وليس رجل؟!. أقول لك: لا. والحمد لله على أنه خلقني رجل. كي أكتب للرجل والمرأة، عن المرأة، شعراً ونثراً.
حول علاقتي بالمرأة، فقد بدأت منذ الطفولة، كما ذكرت لك. كنتُ أحبُّ اللعب مع البنات في الحارة والمدرسة، لأنني كنتُ أعتبرُ البناتَ كائناتٍ جميلةً، غير مؤذية. لا أخفيك أنني كنتُ أشعرُ بالضيق، حين كان ينتهي الفصل الدراسي، لأنني سأفقد صديقاتي البنات، لثلاثة أشهر. وحين تبدأ أبواب المدرسة بالانفتاح، مطالع الخريف، كنتُ أرتدي أجمل ثيابي، وأمشِّط شعري، وأذهب للمدرسة بلهفةٍ وبراءةٍ وخجلٍ شديد.
 وحين انتهت المرحلة الابتدائيَّة، انزعجت كثيراً، لأنهم فصلونا عن بعض. وانتابني شعور بأنني لن ألتقي بصديقاتي البنات، إلا في المرحلة الثانوية. لكن، لم تأتِ تلك المرحلة، وتداخلت الأقدار، وتشابكت الظروف، ودخل الشاعرُ الصغير أتون حياة أخرى، جرَّت عليه صداقات أخرى، أكثير إيلاماً من صداقات الطفولة. ومشاغل السياسة، والاهتمام بالهمِّ العامّ، ومحاولة إعطاء الصورة الأمثل للناشط بين الجماهير، والاقتداء بالثوار والمناضلين، كلّ ذاك، شطبَ على تجلِّيات المراهقة في حياتي. رغم احتكاكي اليوميّ بالمرأة، خلال عملي التنظيميّ، كنتُ ألمح بعض نظرات الإعجاب التي تأتيني من بعضهنّ، إلاَّ كنتُ ألقيها خلفَ ظهري. كنتُ أنظر إليهنَّ، نظرةَ الأخ الذي ينبغي أن يضحِّي بأحاسيسه ومشاعره الذاتيَّة، ولا يلتفتَ إلى غرائزه، وسط المعركة. نعم، لقد كنتُ أعتبر نفسي محارباً، وحتَّى ولو لم أكنْ في ساحة الحرب. قضيّتُ مراهقتي في الكلام عن الثورة والأفكار والتنظيم والسياسة وأخبار الحرب والواجبات والمهام والمسؤوليَّات الوطنيَّة. ولست نادماً على ذلك، رغم أنه، لو أعادني الزمن لتلك الأيَّام الرائعة، التي أحنُّ إليها، لاعتبرتُ كتابة رسالة غزل لإحدى الفتياتِ التي انجذب إليها، ليس أمراً منافياً لقيم الثورة والنضال السياسي.

وماذا عن المرأة في دمشق ؟

في دمشق، لامست نفحات الحبُّ، شغافَ قلبي، أوَّلَ مرَّة. وكان حبَّاً من طرفٍ واحد. وأنتجت هذه الحالة بعض القصائد بالكرديَّة والعربيَّة. وفي دمشق أيضاً، غرس الحبُّ، كأيل جبليٍّ قرنيه عميقاً في قلبي، وأدماني غزيراً، وأبكاني مريراً، وتشهدُ عليَّ دمشق وبيروت. وكان أيضاً حبَّاً من طرفٍ واحد، أنتج دواوين شعر، بالكردي والعربي. وأمَّا الآن، فلا تسأل عن أحوال قلبي، لأنني لن أجيبك. فقط أكتفي بالقول: إنَّ غزالاتي كثيراتٌ، وهنَّ في ازدياد. ولكلِّ غزالة، مكانها في قلبي. وأعتقد أن قلبي، كلَّما ازدادت غزلانه، اتَّسع أكثر.

قبل الدخول في بعض ثنايا شعرك, لا بد أن أطرح سؤالاً قديما طازجاً, لمن تكتب الشعر.؟ وكيف علاقتك بالقارئ في لحظات الوحي الشعري؟. كيف تنقل الحالة الروحية في الشعر من الذات إلى الآخر الذي ليس مفروضاً عليه أن يفهم ما تختلجه نفسك؟.
 


أكتب الشِّعرَ لمنْ يحبِّه، لا لِمن يفهمه. وليس بالضرورة أن يكون فهمُ الشيء، مدخلاً لأن نحبِّه. الشِّعر هو إطلاق سراح كون، هو حبيس لحظة ضالَّة. الشِّعر هو بناءُ جنَّة فوق أسطح الجحيم. الشِّعرُ، سوحانٌ مع الآلهة، وتشاجرٌ معها. الشِّعرُ أنْ تكون إنساناً وإلهاً في آن. يعيشُ الشَّاعرُ جحيماً ليسكننا في جنان خيالاته وكلامه. الشاعرُ قديسٌ اعتاد اقترافَ الآثام، وآثمٌّ يعتلي القداسة، بغية إمتاع البشر. أكتب الشِّعر للآخر الذي يسكنني، ويقلق هواجسي، ويؤرِّقني بأنَّه دوماً الأقوى والأعظم والأشجع والأكثر رهافةً وحساسيَّة منِّي.
حين أكتبُ الشِّعر، لا يخطرُ ببالي القارئ، ومستويات وعيه وفهمه. الشِّعر عندي، حالةُ فكُّ احتباس أو احتقان ذهني وعقلي، وامتحانٌ للروح والخيال، قبل أن تكونَ صنعة الساحرِ الحائر في كيفيَّة استنطاق طاقات الكلام. وأجودُ الشِّعر لديَّ، ما كان باعثاً على الالتباس، وبعيداً من الشروح والوضوح. أجودُّ الشِّعر لديَّ، ما يجعلُ من القارئ مجاهداً في سبيل اقتفاء المعنى، يسعى لاجتياز وعرةِ النصِّ، بشقِّ النفس، وهو يعلم بأنَّه لن يدرك هذا المعنى، مهما أوغل. ويكتفي بمتعة الغموض، أو غموض المتعة في متاهات النصّ.

في "ارتجالات الأزرق" تستحضر التاريخ وتوظف الأسطورة بشكل محكم. ما الذي يمثله لك استحضار التاريخ وشخصياته في الشعر؟ أما الشقّ الآخر من السؤال, لاحظت أن انتزاع التاريخ – الأسطورة ومضامينها من بعض قصائدك سيجعلها شيئاً آخر لكن ليس شعراً بالتأكيد, كيف يمكن أن تحدثنا عن علاقة الشعر بالأسطورة؟.

الشِّعرُ، هو محاولة تأريخ الخيال. وكُلَّما انزلق الشِّعر نحو تأريخ الأحداث، ابتعد عن ماهيته وألقه، وصار أقرب إلى سجِّل. الشِّعر العربيُّ في فترة الخمسينات، كان مهووساً بالأسطورة، ومحاكاة التاريخ، لدرجة التخمة والإقحام. والشِّعرُ الكرديُّ في فترة الستينات والسبعينات، هو أيضاً نحى نفس منحى الشِّعر العربي. ليس مطلوباً من الشِّعر أن يلعب دور تدوين الأحداث والأخبار والأشخاص، فيفقد بذلك بريقه وألقه وديمومته. لكن، من الضروري جدَّاً أن يتفاعل الشِّعر مع الأمكنة والأزمة والأحداث الدائرة بينهما، في مسعى إنتاج قيمة جماليَّة روحيَّة، تخرج الحدث أو الشخص أو المكان، من حيّز لحظيته، وتلقي به صوب الأزل. لا أزعم أنني أنجزت هذا في شعري، لكن، يحقُّ لي الزعم بأنَّني أسعى لتحقيق ذلك. ثمَّ، أنا لا أجيد الحديث حول ما أكتب. وأصلاً، لا أحفظ ما أكتب. ولأنني كرديُّ، قد تجدني اسقط الماضي الكردي بهواجسه ونكباته وأساطيره، على الواقع الكردي بنكباته وآلامه وأساطيره. يمكن للشِّعر أن يستفيد من الأسطورة، لكن، لا يمكن للأسطورة أن تستفيد من الشِّعر. الشِّعرُ والأسطورة، يلتقيان على مفترق خصوبة الخيال الإنساني الذي أنتجهما معاً. هنالك حالة حسد بين الشِّعر والأسطورة. فالشِّعر يحسد الأسطورة على أزليتها. والأسطورة تخشى على أزلتها من لوثة الشِّعر. وقد تكون الأسطورة في بدايتها، شِعر. وقد يكون الشِّعر في نهايته، أسطورة. والفارق بين الأسطورة والشِّعر، إنَّ الأسطورة، تنطوي على شحنة من الكذب الممتع، والشِّعرَ ينطوي على شحنة من الألم الصادق الممتع. فاستحضارُ الشِّعر للأسطورة، مباح، لزيادة جماليَّة المُضارع، بإضافة جرعةٍ من الماضي إليه، في مسعى السير نحو الأزل.
حاصل القول: كتابة الشِّعر في واقعنا الكردي السوري، وخاصَّة باللغة الأم، هو اقترافٌ لفعل سياسي، نظراً ما تعانيه الثقافة الكرديَّة في سورية من قمعٍ ومنعٍ وردع. لكن، حين أكتب، أسعى جاهداً، لأن يستنتج القارئ بأن صائغ هذا الكلام، ليس له علاقة بالكتابة السياسيَّة. وحين أكتب المقال السياسي، أسعى جاهداً، لأن يستنتج القارئ بأن كاتب المقال، ليس له أيَّة علاقة بالشِّعر. وقضيَّة النجاح والإخفاق في هذا المسعى، منوطة بأحكام القارئ والنقَّاد.

 مواجع الذات الدامية مع الأنثى في "ارتجالات الأزرق" تنقلب إلى سمو بالألم، ونزعة صوفية. لكن الانقلاب على "ارتجالات الأزرق" كان واضحاً في مجموعتك غير المنشورة "قصائد النار الضالة / في مديح الهشيم"، رغم انه لا توجد فروقات زمنية كبيرة بين المجموعتين. الأمر الذي يوحي لنا بالسؤال: هل حسمت موقفك من الحرب الأهلية في ذاتك؟.

نعم، حسمت أمري معها، بأن أبقيها ضراماً تنير داخلي. فما يبقي جذوة الشِّعر متَّقدة، هي الحرب الداخليَّة التي أتيت على ذكرها، في روح وجسد الشاعر. لا مناص من أن يكون الشاعر دائمَ الانقلاب على ذاته. إذ كيف لنا أن نكون الشخص ذاته، بمشاعرنا وأفكارنا وهواجسنا وخيالاتنا في كلِّ اللحظات!؟. أمَّا أنا، فأجاهد لأن أكون حقيقيَّاً مع لحظتي، ومتصالحاً معها. وفي كلَّ لحظة، لا أسعى لأن أكون الكائن نفسه. فتصبح لحظتي التي مررت بها جزءاً من ماضيي، الذي لا مناص من تجاوزه. وعليه، أكون قد عشت لحظتي، وأعطيتها حقَّها، قدر استطاعتي، ثمَّ تجاوزتها. وفي تجاوزي ذاك، ليس ثمَّة خيانة بحقِّها. وإن لم يكن دأبُ الشَّاعر الانقلاب على ذاته، شأنه شأن الطبيعة، حينئذ ينعدم لديه الزمن، ويسقط في فخِّ تكرار الذات، ويكون أقرب إلى الكاهن أو المشعوذ الذي يعيد نفس التمتمات، وربما بركاكة متزايدة. ويغدو انفعال الشَّاعر هنا، افتعالاً، سيّئ الطهي والعرض.
كما ذكرت لك، لا أجيد الحديث عمَّا أكتب من الشِّعر. لكن، أزعم أنني أسعى أن أكون دائم التحوّل والتغيير والتجدد في شعري. وإن لاحظتُ بأنني لم أعد أقوى على ذلك، سأترك كتابة الشِّعر فوراً، لثقةٍ تامِّةٍ منِّي بأنَّ ما سأكتبه، سيكون صداً لما كتبته.

 قصيدة "متحف الأنثى" في مجموعتك "قصائد النار الضالة/ في مديح الهشيم" تذكرني كلما قرأتها بأسلوب أدونيس الكتابي ومضامين جبران الصوفية. ولعلك تستطيع الإجابة عن سبب ذلك بأفضل مني؟.

لا.. لا استطيع الإجابة أفضل منك. لكن، قرأت لأدونيس وجبران وغيرهم الكثير من المتصوِّفة والحداثويين والمُتَرجمين. وتأثَّرت بكلِّ من قرأت له.

 أنا اخترت في متحفك للأنثى "المرأة السم". لكني لا اعرف ما الذي اخترته أنت؟.

انا اخترت المتحفَّ كلَّه، وأهديه للقرَّاء، ليختاروا المرأة التي تعجبهم.

 لن أتردد ان أسألك، بعد فضول أرهقني لكثرة ما قرأته في شعرك, ما هو "آذار" بالنسبة لك؟. أحياناً، يوحي استخدامه، وتموضعه في القصيدة بأنه مكان. وأحياناً، أفهمه كشخصية تاريخية ووو...؟.

وأنا، لن أتردد في عدم الإجابة على سؤالك، وذكر ما يعينه آذار بالنسبة لي، كي لا أسطو على الاحتمالات التي تشكِّلت لديك. لأنَّ إجابتي، ستنهي تناسل تلك الاحتمالات لديك. وهذا ما أخشاه، ولا أريده لك، وللنصّ. ولو كان سؤالك عن آذار، خارج سياق السبر والغوص الشِّعري في نصِّي، بالتأكيد لكانت إجابتي غير ذلك.

الملاحظ أن مجموعة "قصائد النار الضالة" و"ارتجالات الأزرق" لا يطابقان عنوان أي نص شعري في هاتين المجموعتين خلاف العادة التي درجت أن يسمي الشاعر ديوانه بعنوان إحدى قصائده. هل يمكن أن تكشف عن ماهية هذين العنوانين؟.

الكشفُ عن ماهيَّة هذين العنوانين، أتركه للنقَّاد، لأنَّه ليست مهمَّتي. أمَّا فيما يخصُّ عدم اختيار عنوان نصّ، ليكون عنوان الديوان، فلم أقم بذلك، منعاً لتفضيل نصٍّ على آخر، وجعله رئيساً وبقيَّة النصوص الأخرى مرؤوسة. كلُّ نصِّ في مجاميعي، اعتبره رئيساً. إنَّ اختيار نصّ ليكون مدخلاً لديوان شعريّ، هو حضٌّ وانتقاصٌ من شأن النصوص الأخرى. لذا، أتعمَّد انتقاء عناوين لدواويني، تكون الخيط الواهن الخفي، الذي يجمع بين النصوص، أو يكون خلاصة المناخ الجامع بينها. وأزعمُ أنَّه ربما لم يسبقني أحد إلى انتهاج هذا التجريب في التعاطي مع العناوين.

 أنت تكتب الشعر بالعربية وتكتبه بالكردية أيضاً. ما أود أن أسأله هنا, أليس للشعر انتماءاً لغوياً؟.

لا شكَّ أنَّ للشِّعر انتماءاً لغويَّاً. لكن، هويَّة الشِّعر مواضيعه وأفكاره وأوجاعه. وإنْ كانت هويَّة الشِّعر لغته، لحقَّ لنا نسبُ كل ما كتبُ جبران بالإنكليزيَّة للشِّعر والأدب الأمريكي. ونسب كل ما كتبه الأمريكيون إلى الأدب الإنكليزي، ونسب كل نتاج أمريكا اللاتينيَّة إلى الأدب الإسباني والبرتغالي، ونسب كل ما كتبه السويسريون إلى الأدب الألماني والإيطالي والفرنسي، ونسب كل ما كتب أدباء الدول الأفريقيَّة الناطقة بالفرنسيَّة إلى الأدب الفرنسي... وهكذا دواليك. مهمٌّ جداً أن يكتب المرء شعراً أو نثراً بلغته الأم. لكن، ما الضيرُ في أن يكتب بلغةٍ أخرى، يكون قيها نصُّهُ روحاً وفكراً كرديَّ الهوى والميل. أعتقد أن الأهمُّ هنا، هو جودة الكتابة وطزاجتها وحيويتها وفرادتها وتمايزها، أكانت باللغة الأمّ أو بغيرها. فكمْ من الكرد يكتبون أردأ وأسوأ الكلام باللغة الأم، ويقدِّمونه لنا على أنَّه شِعرٌ وإبداع، وهو في أصله وفصله، يثيرُ الغثيان، لكثرة احتوائه على الأخطاء والاجترار والاختلاس من غيره. كما أودُّ أن أشير هنا، إلى آفة التعصُّب للغة الأمّ، التي لا يخلو منها مسلك بعضُ كتَّابنا الكُرد الأفاضل، إذ يستنقصون ويعيون على أقرانهم الكتابة بلغة أخرى، بداعي ضرورات تحصين وتدعيم اللغة الأم، والكتابة بها وحدها. ولَعمري أنَّ أهمَّ ما يمكن اعتباره غناً وثراءاً للثقافة الكردية، هو ما يكتبه مبدعو الكرد بالعربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة، بشرط أن يكون النصُّ موضوعاً وروحاً وخيالاً وفكراً كرديَّاً قحَّاً. ولنا في الشُّعراء الكُرد الأوَّلين خيرُ قدوةٍ ومثال. فملايه جزيري وملايه أحمد خاني مثلاً، تزخر قصائدهما بالمفردات العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة. ليس لأنَّ كردِّيتهم ولغتهم الأم كانت مهزوزة ورخوة، وليس لأنَّ تأثير الدين والحالة الصوفيَّة هي التي حقنت نصوصهم بتلك المفردات، بل لأنَّهما أرادا أن يريان أحفادهما من الشُّعراء الكرد، طاقة الخيال الكرديّ الشاعر، وحساسيته في استقطاب مفردات اللغات الأخرى التي تجاور اللغة الكرديَّة. وإن قمنا باستبدال المفردات العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة الموجودة في نصوص الجزيري وخاني، بمرادفاتها الكرديًَّة، بداعي تنقية النَّصّ، نكون حينها، قلتنا النَّصّ وصاحبه.

 لكل لغة لها فضاؤها التخيلي المستقل عن اللغات الأخرى, والسؤال هنا: حتى لو كنت تجيد الكتابة بالعربية, ألا يتعرض الخيال إلى الترجمة من الكردية إلى العربية قبل عملية السيلان الشعري؟.

يتوقَّف ذلك، على منبتِ الخيالات الأولى لدى الإنسان. فالكرديُّ الذي نما وترعرع في كنفِ بيئَّة كرديَّة، سيكون أسُّ وأساس خياله، هي تلك البيئة الأولى، مهما جاب وطاف أصقاع العالم ولغاته. أمَّا الكرديُّ الذي ولد في ديار الغربة، كدمشق وطهران وأنقرة وباريس واستوكهولم...، سيكون خيالهُ ميَّالاً للبيئة التي ولدت فيها، مهما حاول الأبُ والأمُّ سقاية خيال الوليد بخيالهم المأخوذ من بيئتهم الأم. بالنتيجة، المسألة تتوقَّف على مدى مقدرة المبدع في جعل اللغة التي يكتب بها طيعَ خياله، عبر ترويض اللغة، وتفجير طاقاتها التخيُّليَّة، بما ينسجم ويتناغم وخيال المبدع. ومهارة وحرفيَّة الكاتب هنا، تتبدَّى بأن يقول القارئ، آناء انتهائه من قراءةِ مدوَّنة الكاتب: آآآآآآآه.. إنَّ هذه اللغة خُلِقَت لخيالِ هذا الشَّاعر، وإنَّ خصوبة وجموح وشساعة عُبابَ خيالِ هذا الشَّاعر، لم يُخلّق إلاَّ لتتلبَّسه هذه اللغة. فالخيالُ والأفكار في النصِّ الإبداعي، مثلهُ مثلُ الماء، واللغة له، هي الوعاء أو الإناء. وأجودُ النصوص، ما لا يفقدِ من شحنةِ خيالاته، وحمولةِ أفكاره، إن وضعته في أواني لغويَّة متعددة. وبديهيُّ أن تتعرَّض خيالاتي للترجمة من الكرديَّة إلى العربيَّة، أثناء الكتابة بلغة الضَّادّ. وهذا هو المبتغى والمأمول، لكن، دون المساس بجذور ذلك الخيال، التي هي هويَّتهُ البِكر، ولا ينبغي لها أن تُضاع في سياق الترجمة.

 هل أنت المهزوم أم المنتصر في الشعر ؟
 

طبعاً أنا المهزومُ. ولا منتصر على الشِّعر، إلاَّ الشِّعر ذاته. الشِّعرُ هو نزالٌ أبديُّ مع الذات، يكون المنتصرُّ فيه هو القيمة الجماليَّة الشِّعريَّة. أنا المهزوم دوماً أمام الشِّعر، ليس لأنني أودُّ أن أهزم، بل لأن الرغبة في الانتصار هي التي تدفعني إلى الهزيمة. لو كنتُ المنتصرَ على الشِّعر، هذا يعني نهاية العلاقة بيني وبين الشِّعر. هذا يعني، لاجدوى معاودة النزال، وكتابة الشِّعر. وحين أشعر بأنني لم أعد أقوى على النزال، وخارت خيالاتي وأفكاري، وتيبِّست لغتي، حينئذ، سأغادر المعترك، تاركاً إيَّاه لمنازلين جُدد. علَّهم يفلحون فيما  أخفقت أو عجزتُ عن تحقيقه.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.33
تصويتات: 9


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات